قوله تعالى : { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } ، قيل : أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما ، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة ، لأنه قد تقدم ذكر اليهود ، وقال الحسن : فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم ، لا بتسمية الله تعالى ، { أخذنا ميثاقهم } في التوحيد والنبوة .
قوله تعالى : { فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } ، بالأهواء المختلفة ، والجدال في الدين ، قال مجاهد وقتادة : يعني بين اليهود والنصارى ، وقال الربيع : هم النصارى وحدهم ، صاروا فرقاً منهم اليعقوبية ، والنسطورية ، والملكانية ، وكل فرقة تكفر الأخرى .
قوله تعالى : { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } في الآخرة .
{ 14 ْ } { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ }
أي : وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق ، فكذلك أخذنا على { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ْ } لعيسى ابن مريم ، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله وما جاءوا به ، فنقضوا العهد ، { فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ } نسيانا علميا ، ونسيانا عمليا . { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ } أي : سلطنا بعضهم على بعض ، وصار بينهم من الشرور والإحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة ، وهذا أمر مشاهد ، فإن النصارى لم يزالوا ولا يزالون في بغض وعداوة وشقاق . { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ } فيعاقبهم عليه .
{ 15 ، 16 ْ } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ْ }
وبعد أن بين - سبحانه - جانباً من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال - تعالى - :
{ وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا . . . }
قوله - تعالى - : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } معطوف على قوله قبل ذلك : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } ونسب - سبحانه - تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } جمع نصران كندامى جمع ندمان ، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب . وقد صارت كلمة نصراني لكل من اعتنق المسيحية .
وقد سموا بذلك لدعواهم أنهم أنصار عيسى على أعدائهم . أو نسبة إلى بلدة الناصرة التي فيها نشأ عيسى - عليه السلام - وأعلن دعوته للناس .
والمعنى : وكما أخذنا على بني إسرائيل الميثاق بأن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ، ويستجيبوا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به الكتب السماوية ، فقد أخذنا - أيضاً - من الذين قالوا إنا نصارى الميثاق بذلك ، ولكنهم كان شأنهم في الكفر ونقض العهود كشأن اليهود ، إذ ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى قدراً كبيراً ، ونصيباً عظيما مما ذكروا به على لسان عيسى عليه السلام - فقد أمرهم بتوحيد الله ، وبشرهم بظهور رسول من بعده هو محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإِيمان به ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإِيمان ، فكان دأبهم كدأب بني إسرائيل في العناد والضلال .
ونسب - سبحانه - تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } ولم يقل : " ومن النصارى " للإِشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية وهي الدين الذي جاء به عيسى . إنما هو قول يقولونه بافواههم دون أن يتبعوه بقلوبهم إذ لو كانوا متبعين حقاً لما جاء به عيسى عليه السلام - لأقروا لله - تعالى - بالوحدانية ولآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى - عليه السلام - .
وإلى هذا المعنى أشار - صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : فهلا قيل : ومن النصارى ؟
قلت : لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله . ثم اختلفوا بعد : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، أنصاراً للشيطان .
وقوله - تعالى : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } بيان لما حدث منهم بعد أخذ الميثاق .
أي : أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ورسله ولكنهم لم يكونوا أوفياء بعهودهم ، بل تركوا نصيباً كبيرا مما أمروا بفعله ومما ذكروا به على لسان المسيح عيسى بن مريم . والمراد بالنسيان هنا الترك والإِهمال عن تعمد وقصد ، لأن الناسي حقيقة لا يؤاخذه الله - تعالى - :
والإِتيان بالفاء في قوله : { فَنَسُواْ } للإشارة إلى أن تركهم لما أخذ عليهم من ميثاق ، كان عن تعجل وعدم تمهل بسبب استيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم .
والتنكير في قوله تعالى : { حَظّاً } للتهويل والتكثير .
أي تركوا نصيباً كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم من وجوب ابتاعهم للحق وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم عن ظهوره " فكان تركهم لهذا النصيب العظيم مما ذكروا به سببا في ضلالهم وسوء عاقبتهم " .
قال بعضه العلماء : " وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به ، هو اضطهاد النصارى اضطهاداً شديداً في عهد الرومان حتى ضاعت كتبهم ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا . وما ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها - ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات المختلفة - إلا بعد أن دخل قسطنطين أمبراطور الرومان في المسيحية ، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انقعد في سنة 325 ميلادية .
وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد .
وقوله : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وعيد شديد لهم بسبب تركهم لما أرشدوا إليه ، ولما ذكروا به .
فالفاء في قوله - تعالى - { فَأَغْرَيْنَا } للسبيبة وأغرينا أي : ألقينا وهيجنا وألصقنا . يقال : أغريت فلانا بكذا حتى أغرى به ، أي : ألزمته به وألصقته وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلتصق به الشيء .
وقوله : { بينهم } ظرف لأغرينا . والضمير فيه يعود إلى فرق النصارى المتعددة عند جمهور المفسرين .
والمعنى : بسبب ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى لما ذكروا به فرقناهم شيعاً وأحزاباً وجعلنا كل فرقة منهم تعادي الأخرى وتبغضها إلى يوم القيامة .
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله : { بينهم } تعود إلى اليهود والنصارى ، فيكون المعنى :
بسبب ما عليه الطائفتان من عناد وضلال ، ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، فهم في عداوة شديدة ، وكراهية مستحكمة .
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى فرق النصارى فقال :
وأولى التأويلين بالآية عندي : ما قاله الربيع بن أنس وغيره . وهو أن المعنى بالإِغراء بينهم : النصارى في هذه الآية خاصة وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى ، دون اليهود ، لأن ذكر الإِغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضى خبره عن اليهود ، وبعد ابتداء خبره عن النصارى ، فلأن يكون ذلك معنياً به النصارى خاصة . أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لام ذكرناه .
وقال ابن كثير : قوله - تعالى - : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } أي : فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها فالملكانية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون . وكذلك النسطورية الآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقود الأشهاد .
والذي تطمئن إليه النفس أن قوله - تعالى - { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } يشمل ما بين اليهود والنصارى من عداوة ظاهرة مستحكمة يراها الرائي في كل العصور والأزمان ، كما يشمل ما بين فرق النصارى من اختلاف وتباغض وتقاتل بسبب عقائدهم الزائغة وأهوائهم الفاسدة .
وما نراه من تصارع وتقاتل بين طائفتي الكاثوليك والبروستانت في . إيرلاندا وفي غيرها خير شاهد على صدق القرآن الكريم ، وأنه من عند الله - عز وجل -
وقوله - تعالى - : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان ما حكم به عليه في الدنيا من عداوة وبغضاء . { سوف } هنا لتأكيد الخبر وتقويته وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة .
والمعنى : لقد ألقينا العداوة والبغضاء بين هذه الطوائف الضالة وسوف يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعون من كتمان الحق ، ومخالفة للرسل ، وانغماس في الباطل ، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون من عذاب شديد .
كذلك يقص الله - سبحانه - على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة ، أنه أخذ ميثاق الذين قالوا : إنا نصارى ، من أهل الكتاب . ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك . فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق :
( ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) .
ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة :
( ومن الذين قالوا : إنا نصارى ) . .
ودلالة هذا التعبير : أنهم قالوها دعوى ، ولم يحققوها في حياتهم واقعا . . ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله . وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي . وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ؛ ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف . كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق ، التي لا تكاد تعد . في القديم وفي الحديث [ كما سنبين إجمالا بعد قليل ] . وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة . . جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به . . ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ؛ وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون !
ولقد وقع بين الذين قالوا : إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله - سبحانه - في كتابه الصادق الكريم ؛ وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله . سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ؛ أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ؛ أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات . . وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين ، جزاء على نقضهم ميثاقهم ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله ، وأول بند فيه هو بند التوحيد ، الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام . لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل
{ وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَىَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } . .
يقول عزّ ذكره : وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي واتباع رسلي والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود ، فبدّلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي وضيعوا أمري . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَمِنَ الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى أخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ : نسوا كتاب الله بين أظهرهم ، وعهد الله الذي عهده إليه ، وأمر الله الذي أمرهم به .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ، ونسوا حظّا مما ذكّروا به .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ : حرشنا بينهم وألقينا ، كما نُغزي الشيءَ بالشيء . يقول جلّ ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي حظهم ، مما عهدت إليهم من أمري ونهيي ، أغريت بينهم العداوة والبغضاء .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء ، فقال بعضهم : كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ قال : هذه الأهواء المختلفة ، والتباغض فهو الإغراء .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، قال : سمعت النخعي يقول : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي والتيمي ، قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : ما أرى الإغراء في هذه الاَية إلا الأهواء المختلفة . وقال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال .
وقال آخرون : بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ . . . الاَية . إن القوم لما تركوا كتاب الله ، وعَصَوا رسله ، وضيعوا فرائضه ، وعطلوا حدوده ، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء ، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره ، ما افترقوا ولا تباغضوا .
وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحقّ ، تأويل من قال : أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم ، كما قال إبراهيم النخعي لأن عداوة النصارى بينهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح ، وذلك أهواء لا وحي من الله .
واختلف أهل التأويل في المعنىّ بالهاء والميم اللتين في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ فقال بعضهم : عني بذلك : اليهود والنصارى . فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم : فأغرينا بين اليهود والنصارى ، لنسيانهم حظّا مما ذكّروا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، وقال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال في النصارى أيضا : فنسوا حظّا مما ذكّروا به ، فلما فعلوا ذلك أغرى الله عزّ وجلّ بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَوْمه القيامَةِ قال : هم اليهود والنصارى . قال ابن زيد : كما تغري بين اثنين من البهائم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، ال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فَأغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : اليهود والنصارى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هم اليهود والنصارى ، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك : النصارى وحدها . وقالوا : معنى ذلك : فأغرينا بين النصارى عقوبة لها بنيسانها حظا مما ذكرت به . قالوا : وعليها عادت الهاء والميم في بينهم دون اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن الله عزّ ذكره تقدّم إلى بني إسرائيل أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً ، وعلّموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرا . فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذوا الرشوة في الحكم وجاوزوا الحدود ، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمه القِيامَةِ وقال في النصارى : فَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمَ القِيامةِ .
وأولى التأويلين بالاَية عندي ما قاله الربيع بن أنس ، وهو أن المعنىّ بالإغراء بينهم : النصارى في هذه الاَية خاصة ، وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى دون اليهود ، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضي خبره عن اليهود ، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى ، فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرنا .
فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى ، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك ؟ قيل : ذلك عداوة النّسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية ، وليس الذي قاله من قال معنى بذلك : إغراء الله بين اليهود والنصارى ببعيد ، غير أن هذا أقرب عندي وأشبه بتأويل الاَية لما ذكرنا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمعا كانُوا يَصْنَعُونَ .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك ، واصفح فإن الله من وراء الانتقام منهم ، وسينبئهم الله عند ورودهم الله عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم .
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } أي وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم ، وقيل تقديره ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا ، وإنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله سبحانه وتعالى . { فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا } فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به . { بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } بين فرق النصارى ، وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية ، أو بينهم وبين اليهود . { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } بالجزاء والعقاب .
{ من } متعلقة { بأخذنا } التقدير : وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم ، ويحتمل أن يكون قوله { ومن } معطوف على قوله { خائنة منهم } [ المائدة : 13 ] ، ويكون قوله { أخذنا ميثاقهم } ابتداء خبر عنهم ، والأول أرجح . وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم ، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله ، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم ، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه ، وقوله تعالى : { فأغرينا بينهم } معناه أثبتناها بينهم وألصقناها ، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به ، والضمير في { بينهم } يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم ، موجودة مستمرة ، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة ، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ إنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ متقدم للعذاب ، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار .