قوله تعالى : { ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً } ، خديعة وفساداً ، { بينكم } ، فتغرون بها الناس ، فيسكنون إلى أيمانكم ، ويأمنون ثم تنقضونها ، { فتزل قدم بعد ثبوتها } ، فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين ، والعرب تقول لكل مبتلي بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت قدمه . { وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله } ، قيل : معناه : سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد ، { ولكم عذاب عظيم } .
{ 94 } { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
أي : { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ } ، وعهودكم ومواثيقكم تبعا لأهوائكم متى شئتم وفيتم بها ، ومتى شئتم نقضتموها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم ، { وَتَذُوقُوا السُّوءَ } ، أي : العذاب الذي يسوءكم ويحزنكم ، { بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ، حيث ضللتم وأضللتم غيركم ، { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، مضاعف .
وبعد أن أمر - سبحانه - بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها بصفة عامة ، أتبع ذلك بالنهي عن الحنث في الإِيمان بصفة خاصة ، فقال تعالى : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . . . } .
فقوله - سبحانه - : { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } ، تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان من أجل الغش والخديعة ، بعد النهي عن نقض العهود بصفة عامة . أي : ولا تتخذوا - أيها المؤمنون - الحلف بالله - تعالى - ذريعة إلى غش الناس وخداعهم واستلاب حقوقهم ، فقد جرت عادة الناس أن يطمئنوا إلى صدق من يقسم بالله - تعالى - ، فلا تجعلوا هذا الاطمئنان وسيلة للكذب عليهم ، ولإِفساد ما بينكم وبينهم من مودة .
ثم رتب - سبحانه - على هذا النهي ما من شأنه أن يردع النفوس عن اتخاذ الأيمان دخلا فقال : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } ، وأصل الزلل الخروج عن الطريق السليم . يقال : زل فلان يزل زللا وزلولا ، إذا دحضت قدمه ، ولم تصب موضعها الصحيح ، أي : لا تتخذوا أيمانكم وسيلة للخديعة والإِفساد بين الناس ، فتزل أقدامكم عن طريق الإِسلام بعد ثبوتها عليها ، ورسوخها فيها ، قالوا : والجملة الكريمة مثل يُضْرَب لكل من وقع في بلية ومحنة ، بعد أن كان في عافية ونعمة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت ؟ قلت : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق . بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ .
وقوله : { وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله } ، بيان لما يصيبهم من عذاب دنيوي بسبب اتخاذ أيمانهم دخلا بينهم . أي : وتذوقوا السوء ، وهو العذاب الدنيوي من المصائب والخوف والجوع ، بسبب صدودكم وإعراضكم عن أوامر الله ونواهيه ، أو بسبب صدكم لغيركم عن الدخول في دين الله ، حيث رأى منكم ما يجعله ينفر منكم ومن دينكم .
والتعبير بتذوقوا ، فيه إشارة إلى أن العذاب الدنيوي الذي سينزل بهم بسبب اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم ، سيكون عذابا شديدا يحسون آلامه إحساسا واضحا ، كما يحس الشارب للشيء المر مرارته ، ويتذوق آلامه .
قال ابن كثير : حذر الله - تعالى - عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا ، أي : خديعة ومكرا ، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها ؛ مثل لمن كان على الاستقامة وحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصد عن سبيل الله ؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول فى الإِسلام .
وقوله : { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، لا يعلم مقدار شدته وهوله إلا الله - عز وجل - فأنت ترى أن الآية الكريمة قد رتبت على اتخاذ الأيمان دخلا ، انقلاب حالة الإِنسان من الخير إلى الشر ، ونزول العذاب الدنيوي والأخروي به .
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود ، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة ، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية . ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية ، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات . وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة ، ويلوح بما عند الله من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة ، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه ، ولا ينقطع رزقه :
( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ، فتزل قدم بعد ثبوتها ، وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ، ولكم عذاب عظيم . ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا . إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون . ما عندكم ينفد وما عند الله باق . ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) .
واتخاذ الأيمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير ، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين . فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه ، لا يمكن أن تثبت له عقيدة ، ولا أن تثبت له قدم على صراطها . وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث ، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل ؛ ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السييء الذي يضربه للمؤمنين بالله .
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم ، ومن صدقهم في وعدهم ، ومن إخلاصهم في أيمانهم ، ومن نظافتهم في معاملاتهم . فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم .
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول [ ص ] في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز . . روى أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد ، فسار إليهم في آخر الأجل . [ حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ] فقال له عمر بن عتبة : الله أكبر يا معاوية . وفاء لا غدر . سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها " فرجع معاوية بالجيش . والروايات عن حفظ العهود - مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها - متواترة مشهورة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَتّخِذُوَاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسّوَءَ بِمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلاً وخديعة بينكم ، تَغُرّون بها الناس ، { فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها } ، يقول : فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين . وإنما هذا مثل لكلّ مبتلى بعد عافية ، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة ، وما أشبه ذلك : «زلّت قدمه » ، كما قال الشاعر :
سيَمْنَعُ منكَ السّبْقُ إنْ كُنْتَ سابِقا *** وتُلْطَعُ إنْ زَلّتْ بكَ النّعْلانِ
وقوله : { وَتَذُوقُوا السّوءَ } ، يقول : وتذوقوا أنتم السوء ، وذلك السوء هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا ، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر . { بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } ، يقول : بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان . { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، في الآخرة ، وذلك نار جهنم . وهذه الآية تدلّ على أن تأويل برَيُدة الذي ذكرنا عنه في قوله : { وأوْفُوا بعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُمْ } ، والآيات التي بعدها ، أنه عُنِي بذلك : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، عن مفارقة الإسلام لقلة أهله ، وكثرة أهل الشرك ، هو الصواب ، دون الذي قال مجاهد أنهم عنوا به ؛ لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى ، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك أنهم باتخاذهم الأيمان دخلا بينهم ونقضهم الأيمان بعد توكيدها ، صادّون عن سبيل الله ، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها ، وهذه صفة أهل الكفر بالله ، لا صفة أهل النّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم .
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخَلاً بينكم } ، تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي . { فتزلّ قدم } ، أي : عن محجة الإسلام . { بعد ثبوتها } عليها ، والمراد : أقدامهم ، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة . { وتذوقوا السوء } ، العذاب في الدنيا . { بما صددتم عن سبيل الله } ، بصدكم عن الوفاء أو صدكم غيركم عنه ، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره . { ولكم عذاب عظيم } ، في الآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {ولا تتخذوا أيمانكم}، يعني: العهد،
{دخلا بينكم}: بالمكر والخديعة،
{فتزل قدم بعد ثبوتها}، يقول: إن ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة،
{وتذوقوا السوء}، يعني: العقوبة،
{بما صددتم عن سبيل الله}، يعني: بما منعتم الناس عن دين الله الإسلام،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلاً وخديعة بينكم، تَغُرّون بها الناس، {فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها}، يقول: فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين. وإنما هذا مثل لكلّ مبتلى بعد عافية، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة، وما أشبه ذلك...
وقوله: {وَتَذُوقُوا السّوءَ}، يقول: وتذوقوا أنتم السوء، وذلك السوء هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر. {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ}، يقول: بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان.
{وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، في الآخرة، وذلك نار جهنم.
وهذه الآية تدلّ على أن تأويل... قوله: {وأوْفُوا بعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُمْ}، والآيات التي بعدها، أنه عُنِي بذلك: الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، عن مفارقة الإسلام لقلة أهله، وكثرة أهل الشرك، هو الصواب... لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك أنهم باتخاذهم الأيمان دخلا بينهم ونقضهم الأيمان بعد توكيدها، صادّون عن سبيل الله، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها، وهذه صفة أهل الكفر بالله، لا صفة أهل النّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فتزل قدم به ثبوتها}، أن الآيات التي تقدم ذكرها في أهل الإسلام؛ لأنه أخبر أنه تَزِلُّ {قدم بعد ثبوتها}، وهو الكفر بعد الإسلام...
وعندنا ما ذكرنا أن قوله: {فتزل قدم}، بالخوف، {بعد ثبوتها}، أو بعد ما كانوا آمنين؛ لأنهم بإيمانهم كانوا يأمنون، وبنقضهم العهد و الأيمان يخافون. فيكون قوله: {فتزل قدم}، كناية عن الخوف، وقوله: {بعد ثبوتها}، كناية عن الأمن، أي: صاروا خائفين بنقض العهود والأيمان بعدما كانوا آمنين، والله أعلم...
{وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله}، على هذا التأويل: يذوقون ذلك في الدنيا بالقتل والقهر، ويحتمل في الآخرة بما صدوا الناس عن دين الله، واستبدلوا به الكفر بعد الإيمان. {ولكم عذاب عظيم}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}، فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها. {وَتَذُوقُواْ السوء}، في الدنيا بصدودكم {عَن سَبِيلِ الله} وخروجكم من الدين. أو بصدّكم غيركم؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها. {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، في الآخرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
كرر النهي عن اتخاذ الأيمان {دخلاً بينكم}، تهمماً بذلك ومبالغة في النهي عنه، لعظم موقعه من الدين، وتردده في معاشرات الناس... وقوله: {فتزل قدم بعد ثبوتها}، استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم، ويسقط لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر... ومنه يقال لمن أخطأ في شيء: زل فيه...
وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض عهده، لأن هذا الوعيد وهو قوله: {فتنزل قدم بعد ثبوتها} لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به بعد نعمة، ويدل على هذا قوله تعالى: {وتذوقوا السوء} أي العذاب: {بما صددتم} أي بصدكم: {عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم} أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين أن الكذب وما جر إليه أقبح القبائح، وأبعد الأشياء عن المكارم، وكان من أعظم أسباب الخلاف، فكان أمره جديراً بالتأكيد، أعاد الزجر عنه بأبلغ مما مضى بصريح النهي مرهباً مما يترتب على ذلك، فقال معبراً بالافتعال إشارة إلى أن ذلك لا يفعل إلا بعلاج شديد من النفس؛ لأن الفطرة السليمة يشتد نفارها منه: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً}، أي: فساداً ومكراً وداء وخديعة. {بينكم}، أي: في داخل عقولكم وأجسامكم. {فتزل}، أي: فيكون ذلك سبباً لأن تزل {قدم}، هي في غاية العظمة بسبب الثبات. {بعد ثبوتها} عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة. {وتذوقوا السوء}، مع تلك الزلزلة. {بما صددتم}، أي: أنفسكم ومنعتم غيركم بأيمانكم التي أردتم بها الإفساد لإخفاء الحق. {عن سبيل الله}، أي: الملك الأعلى، يتجدد لكم هذا الفعل ما دمتم على هذا الوصف. {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم}، ثابت غير منفك إذا متم على ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية. ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات. وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة، ويلوح بما عند الله من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع رزقه:... واتخاذ الأيمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة، ولا أن تثبت له قدم على صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل؛ ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين بالله...
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم...
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول [صلى الله عليه وسلم] في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والزّلل: تزلّق الرّجل وتنقّلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فأزّلهما الشيطان عنها} في سورة البقرة (36). وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرّض للضرّ، لأنه يترتّب عليه السقوط أو الكسر، كما أن ثبوت القدم تمكّن الرّجل من الأرض، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير. ولما كان المقصود تمثيل ما يجرّه نقض الأيْمان من الدخل شبّهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلّت به فصرع. فالمشبه بها حال رجل واحد، ولذلك نكرت {قدم} وأفردت، إذ ليس المقصود قدماً معيّنة ولا عدداً من الأقدام، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر: أراكم تقدّمون رجلاً وتؤخّرون أخرى. تمثيلاً لحالهم بحال الشخص المتردّد في المشي إلى الشيء. وزيادة {بعد ثبوتها} مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة. والثبوت: مصدر ثبت كالثّبات، وهو الرسوخ وعدم التنقّل، وخصّ المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقّق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصّوا الثبات الذي بالألف بالمعنى الحقيقي وهي تفرقة حسنة. والذّوق: مستعار للإحساس القويّ كقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} وتقدم في سورة العقود (95). والسّوء: ما يؤلم. والمراد به: ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم. و {صددتم} هنا قاصر، أي بكونكم معرضين عن سبيل الله. وتقدّم آنفاً. ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه، أي على التمسّك بالإسلام. فسبيل الله: هو دين الإسلام...
هذه زلة وكبوة بعد ثبات وقوة، بعد أن كان أهلاً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يقبل عليه الناس، ويحبون التعامل معه بما لديه من شرف الكلمة وصدق الوعد، فإذا به يتراجع للوراء، ويتقهقر للخلف، ويفقد هذه المكانة...
ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون: فلان اهتز مركزه في السوق، أي: زلت قدمه بما حدث منه من نقضٍ للعهود، وحنث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل الثقة في السوق، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أن يعلن إفلاسه في دنيا التعامل مع الناس...
أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأيمان، فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا تتزحزح ولا تهتز، فترى مال الناس جميعاً ماله، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل...
ولذلك، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء، هذا هو رأس مالهم، فإن دخل شريك بما لديه من رأس المال، فهذا شريك بما لديه من شرف الكلمة وشرف السلوك، ووجاهة بين الناس، وماضٍ مشرف من التعامل. وهذه يسمونها:"شركة الوجوه والأعيان"، وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم، وبما له من سوابق فضائل ومكارم...
وكذلك، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص، بل نراها في [عينة من العينات] أو العلامات التجارية، فنراها تباع وتشتري، ولها قيمة غالية في السوق، بما نالته من احترام الناس وتقديرهم، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف الكلمة... السوء: أي: العذاب الذي يسوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس، وكساد في الحال، بعد أن سقط من نظر المجتمع، وهدم جسر الثقة بينه وبين مجتمعه...
إن معنى سبيل الله: كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة، تدار بشرف وأمانة وصدق ونفاذ عهد...
فالذي يخلف العهد، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال يضن بماله، وصاحب المعروف يتراجع... إذن: لاشك أن في هذا صداً عن سبيل الله، وتزهيداً للناس في فعل الخير...