{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } . يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد . { فتبينوا } قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين ، وفي سورة الحجرات بالتاء ، والثاء ، من التثبيت . أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون ، من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته .
قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم } . هكذا قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحمزة ، أي : المعادة ، وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين ، لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل : السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمناً ، فذلك قوله تعالى : { لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } ، يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، وعرض الحياة الدنيا منافعها ومتاعها .
قوله تعالى : { فعند الله مغانم } أي غنائم .
قوله تعالى : { كثيرة } ، وقيل : ثواب كثير ، لمن اتقى قتل المؤمن .
قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } . قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين .
قوله تعالى : { فمن الله عليكم } ، بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالاً من قبل فمن الله عليكم بالهداية . وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة ، قلا تخيفوا من قالها ، فمن الله عليكم بالهجرة .
قوله تعالى : { فتبينوا } أن تقتلوا مؤمناً .
قوله تعالى : { إن الله كان بما تعملون خبيراً } ، قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً فإن سمع أذاناً كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم . كان إذا بعث سريةً قال : ( إذا رأيتم مسجداً ، أو سمعتم أذاناً ، فلا تقتلوا أحداً ) " .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، ليعرف هل يقدم عليها أم لا ؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف لشرور عظيمة ، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها{[224]} قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي ، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى .
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له ، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها ، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه ، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله ، وإن شق ذلك عليها .
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى ، قبل هدايتهم إلى الإسلام : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم ، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا ، فكذلك غيركم . فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة ، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى ، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه ، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال : { فَتَبَيَّنُوا }
فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم ، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام ، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه ، فيتثبت فيها العبد ، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه ، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 94 )
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات متعددة إلا أنها متقاربة فى المعنى . وقد حكى معظمها الإِمام القرطبى فقال ما ملخصه :
هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين مروا فى سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله - ظنا منه أن المقتول نطق بالشهادتين ليأمن القتل - فلما ذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته .
وقد قيل : إن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط . وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك من بنى مرة من أهل فدك .
وفى سنن ابن ماجه " عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا فمنح المشركون المسلمين أكتافهم . فحمل رجل من المسلمين على رجل من المشركين بالرمح . فلما غشيه قال : أشد أن لا إله إلا الله إنى مسلم . فطعنه فقتله .
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت . قال : " وما الذى صنعت " مرة أو مرتين . فأخبره بالذى صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما فى قلبه " ؟ فقال : " يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما فى قلبه ؟ قال : لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما فى قلبه " " .
ثم قال القرطبى : ولعل هذه الأحوال جرت فى زمان متقارب فنزلت الآية فى الجميع .
والضرب فى الأرض : السير فيها . تقول العرب : ضربت فى الأرض إذا سرت لتجارة أو غزة أو غيره . وكأن السير فى الأرض سمى بذلك ؛ لأنه يضرب الأرض برجليه فى سيره . والمراد بالضرب فى الأرض هنا : السفر والسير فيها من أجل الجهاد فى سبيل الله .
وقوله { فَتَبَيَّنُواْ } معناه : فتثبتوا وتأكدوا وتأملوا فيما تأتون وتذرون . وقرأ حمزة " فثبتوا " .
قال القرطبى : والسلم والسلم والسلام بمعنى واحد . قال البخارى . وقرئ بها كلهاز واختار أبو عبيد " السلام " . وخالفه أهل النظر فقالوا ؛ السلم هنا أشبه ؛ لأنه بمعنى الانقياد والاستسلام . كما قال - تعالى - { فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } والمعنى : يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق ، إذا خرجتم من بيوتكم وسرتم فى الأرض من أجل الجهاد فى سبيل الله وإعلاء كلمته { فَتَبَيَّنُواْ } أى فاطلبوا بيان الأمر فى كل ما تأتون وما تذرون ، واحذروا أن تضعوا سيوفكم فى غير موضعها .
فإن الأصل فى الدماء الحرمة والصيانة وعدم الاعتداء عليها ، وقد حرم الله - تعالى - قتل النفس إلا بالحق .
والتبين والتثبت فى القتل واجب حضراً وسفرا . وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التى نزلت فيها الآية وقعت فى السفر .
وقوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } أى : تأكدوا - أيها المؤمنون - وتثبتوا فى كل أحكامكم وأفعالكم ، ولا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم ودينكم فنطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإِسلام . لا تقولوا له لست مؤمنا حقا وإنما قلت ما قلت بلسانك فقط لتأمن القتل . بل الواجب عليكم أن تقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه ؛ فإن علم السرائر والبواطن إنما هو لله - تعالى - وحده .
وجملة { لَسْتَ مُؤْمِناً } مقول لقوله { لاَ تَقُولُواْ } : أى لا تنفوا عنه الإِيمان وهو يظهره أمامكم وفى هذا من الفقه - كما يقول القرطبى - باب عظيم ، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر .
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به ، وقد أرسل بذلك إلى قواد جويشه لأن الذين يقتلون من يطلب الأمان طمعا فى ماله لا يكون جهاده خالصا لله ، ولا تكون أعمال محل رضا الله - تعالى - ولذا قال - سبحانه - :
{ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } . والابتغاء : الطلب الشديد والرغبة الملحة .
وعرض الحياة الدنيا : جميع متاعها وأموالها . وسمى متاع الدنيا عرضا ، لأنه مهما كثر فهو زائل غير دام ، وعارض غير باق .
قال الراغب : والعرض - بفتح الراء والعين - مالا يكون له ثبات . ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثابت له إلا بالجوهر . وقيل : الدنيا عرض حاضر تنبيها على أنه لا ثابت لها ، والمغانم : جمع مغنم ويطلق على ما يؤخذ من مال العدو ، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول .
والمعنى : تثبتوا - أيها - فى كل أقوالكم وأعمالكم ، ولا تتعجلوا فى أحكامكم ، ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام أو نطق بالشهادتين لست مؤمنا ، وإنما فعلت ذلك تقية ؛ ثم تقتلونه . مبتغين من وراء قتله متاع الدنيا الزائل ، وعرضها الفانى ، إن هذا المسلك يتنافى مع الإِيمان الصادق والجهاد الخالص . ومن كان منكم يريد متاع الدنيا فليطلبه من الله وحده - فإن خزائنه لا تنفد ، وعطاءه لا يحد - ولا يطلبه عن طريق الاعتداء على من أظهر الإِسلام أو التمس منكم الأمان .
وقوله { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } حال من فاعل { لاَ تَقُولُواْ } لكن لا على أن يكون النهى راجعا للقيد فقط كما فى قولك : لا تطلب العلم تبتغى به الجاه والتفاخر ، بل على أنه راجع إليهما جميعا .
أى : لا تقولوا له ذلك ولا تبتلغوا العرض الفانى .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة توبيخهم على حرصهم على متاع الدنيا بطريقة لا تناسب مع الإِيمان الكامل ، ومع الهدف الذى خرجوا من أجله : وهو إعلاء كلمة الله تعالى - وضم أكبر عدد من الناس إلى دعوة الحق التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهى عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا بهذا الأسلوب فكأنه قال : لا تعودوا إلى ما فعلتموه من قتل من ألقى إليكم السلام طلبا لما له ، فإن الله - تعالى - عنده مغانم كثيرة ، وفى مقدوره أن يغنيكم من فضله ؛ فالجأوا إلى جنابه وحده ، وخصوه بالسؤال ، وأخصلوا له العمل .
وقوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ } تعليل للنهى عما قالوه وما فعلوه .
أى : أنتم - أيها المؤمنون - كنتم من قبل مثل ذلك الذى ألقى إليكم السلام ، فقد كنتم فى أول إسلامكم ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من النطق بالشهادتين وتبادل تحية الإِسلام ، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم .
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال : قوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أول ما دخلتم فى الإِسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت من دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاععلى مواطأة قلوبكم لألسنتكم بالاستقامة والاشتهار بالإِيمان فعليكم أن تفعلوا بالداخلين فى الإِسلام كما فعل لكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإِسلام فى المكانة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية ، فتجعلوه سبيلا إلى استباحة دمه وماله وقد حرمها الله .
فاسم الإِشارة راجع إلى { مِّن } فى قوله : { لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام } .
ويجوز أن يكون اسم الإِشارة راجعا إلى الحالة التى كانوا عليها فى ابتداء إسلامهم . أى كحال هذا الذى يسر إيمانه ويخفيه عن قومه كنتم من قبل .
وقد جرح هذا المعنى ابن جرير فقال ما ملخصه : قوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أى كذلك كنتم تخفون إيمانكم فى وقومكم من المشركين ، وأنتم مقيمون بين أظهرهم ، كما كان هذا الذى قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفيا بدينه منهم { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } أى : فرفع منكم ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته . .
والذى يبدو لنا أن الاية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين ، إلا أن التفسير الأول الذى جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية ؛ لأن المقصد الرئيس الذى تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإِسلام وعن الاعتداء عليه . وأمرهم بان يعاملوا الناس بظاهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده .
والفاء فى قوله { فَتَبَيَّنُواْ } فصيحة . أى : إذا كان الأمر كذلك فتبينوا نعمة الله عليكم وداوموا على شكرها ، وقيسوا أحوال غيركم بما سبق من أحوالكم ، واقبلوا ظواهر الناس بدون فحص عن بواطنهم ، ولا تصدروا أحكامكم عليهم إلا بعد التثبت والتأكد من صحتها ولا تشهروا سيوفكم فى وجوههم إلا بعد التأكد من كفرهم وعدوانهم .
وقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تحذيرهم من مخالفة أمره .
أى : إن الله مطلع على دقيق الأمور وجليلها ، خبير بما تسره نفوسكم وما تعلنه ، لا يخفى عليه شئ من ظواهركم وبواطنكم ، وسيحاسبكم على كل ذلك ، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر .
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حرم قتله ؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإِسلام المانع من إهدار دمع وماله وأهله .
كما أخذوا منها وجوب التثبت فى الأحكام وفى الأقوال . وأخذ الناس بظواهرهم حتى يثبت خلاف ذلك .
قال الفخر الرازى : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة فى تحريم قتل المؤمنين . وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف .
وقال بعض العلماء : وقد دلت الآية على حكمة عظيمة فى حفظ الجامعة الدينية ، وهى بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده ، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه . وبذلك ترتفع الثقة ، ويسهل على ضعفاء الإِيمان المروق ، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق . وانظر معاملة النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين .
على أن هذا الدين سريع السريان فى القلوب فيكتفى أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة . إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم . فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا . ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال { فَتَبَيَّنُواْ } تأكيدا لقوله { فَتَبَيَّنُواْ } المذكور قبله . .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : يا أيها الذين صدّقوا الله صدّقوا رسوله ، فيما جاءهم به من عند ربهم¹ { إذا ضَرَبْتُمْ فِي سبِيل اللّهِ } يقول : إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم { فَتَبَيّنُوا } يقول : فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله . { وَتَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ } يقول : ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ، { لَسْتَ مُؤْمِنا } فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، يقول : طلب متاع الحياة الدنيا ، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه ، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه ، فالتمسوا ذلك من عنده { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يقول : كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه ، كذلك أنتم من قبل ، يعني : من قبل إعزاز الله دينه بأتباعه وأنصاره ، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم .
وقد قيل : إن معنى قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } كنتم كفارا مثلهم . { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتفضل الله عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه . وقد قيل : فمنّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام . { فَتَبَيّنُوا } يقول : فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه ، فلعلّ ألله أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم ، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان . { إنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } يقول : إن الله كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم { خَبِيرا } يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظه عليكم وعليهم ، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء باساءته .
وذكر أن هذه الاَية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال : إني مسلم ، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ ، أو بعد ما سلم عليهم ، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه ، فأخذوه منه . ذكر الرواية والاَثار بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، أن ابن عمر ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام ، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية ، فرماه محلم بسهم فقتله . فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله سُنّ اليوم وغيّر غدا ! فقال عيينة : لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي ! فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا غَفَرَ اللّهُ لَكَ »فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه ، فلفظته الأرض . فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فقال : «إنّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ ، وَلَكِنّ اللّهَ جَلّ وَعَزّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ » . ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل ، وألقوا عليه من الحجارة ، ونزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي . فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعُود له معه مُتَيّع له ووَطْب من لبن . فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان وبينه وبينه ، فقتله وأخذ بعيره ومتيّعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } . . . الاَية .
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم ! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة ، فنزلت هذه الاَية : { وَلا تَقولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنْيا } تلك الغُنيْمة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو سمع عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق المسلمون رجلاً ، ثم ذكر مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غنم له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم ! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيّنُوا } . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن بالله والرسول ، ويكون في قومه ، فإذا جاءت سرّية محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه يعني قومه ففرّوا ، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم ، فيلقى إليهم السلام ، فيقول المؤمنون : لست مؤمنا ! وقد ألقى السلام ، فيقتلونه ، فقال الله جلّ وعزّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . . إلى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا } يعني : تقتلونه إرادة أن يحلّ لكم ماله الذي وجدتم معه ، وذلك عرض الحياة الدنيا ، فإن عندي مغانم كثيرة ، فالتمسوا من فضل الله . وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب ، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس ، فسلم عليهم فقتلوه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته وردّ إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . الاَية ، قال : هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان¹ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك ، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم ، ففرّ أصحابه ، فقال مرداس : إني مؤمن وإني غير متبعكم ! فصّبحته الخيل غدوة ، فلما لقوه سلم عليهم مرداس ، فتلقوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ، وأخذوا ما كان معه من متاع ، فأنزل الله جلّ وعزّ في شأنه : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } لأن تحية المسلمين السلام ، بها يتعارفون ، وبها يحيى بعضهم بعضا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدّنْيا } . . . الاَية . قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل ، واتبعه أسامة ، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ، ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيرا ، ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه ، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فشدّ عليه فقتله ! وهو معرض عنهم . فلما أكثروا عليه ، رفع رأسه إلى أسامة فقال : «كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاّ اللّهُ » ؟ قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذا ، تعوّذ بها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ ؟ » قال : يا رسول الله إنما قلبه بَضْعَة من جسده . فأنزل الله عزّ وجلّ خبر هذا ، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا } فلما بلغ : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله ، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين ، فحمل عليه ، فقال له المشرك : إني مسلم ، أشهد أن لا إله إلا الله ! فقتله المسلم بعد أن قالها ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال للذي قتله : «أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ قَالَ لا إله إلا الله ؟ » فقال وهو يعتذر : يا نبيّ الله إنما قالها متعوّذا وليس كذلك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَهَلاّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ؟ » ثم مات قاتل الرجل فقبر ، فلفظته الأرض ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يقبروه ، ثم لفظته الأرض ، حتى فعل به ذلك ثلاث مرّات ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ الأرْضَ أبَتْ أنْ تَقْبَلَهُ فَألْقوهُ فِي غارٍ مِنَ الغِيرَانِ » . قال معمر : وقال بعضهم : إن الأرض تقبل من هو شرّ منه ، ولكن الله جعله لكم عبرة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : أن قوما من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم إني مؤمن ! فظنوا أنه يتعوّذ بذلك ، فقتلوه ، وأخذوا غنيمته . قال : فأنزل الله جلّ وعزّ : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا } تلك الغنيمة¹ { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا } قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فمرّوا برجل في غُنَيمة له ، فقال : أني مسلم ! فقتله المقداد . فلما قدموا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الاَية : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا } قال : الغنيمة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد ، وقد ذكرت في تأويل قوله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } ، ثم قال في الخبر : ونزل الفرقان : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } فقرأ حتى بلغ : { لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنيْا } غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا ، { فَعِنْدَ اللّهَ مَغانِمُ كَثِيرةٌ } خير من تلك الغنم ، إلى قوله : { إنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : راعي غنم ، لقيه نفر من المؤمنين ، فقتلوه وأخذوا ما معه ، ولم يقبلوا منه : «السلام عليكم ، فإني مؤمن » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : حرّم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله لست مؤمنا ، كما حرّم عليهم الميتة ، فهو آمن على ماله ودمه ، ولا تردّوا عليه قوله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { فَتَبَيّنُوا } فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين : { فَتَبَيّنُوا } بالباء والنون من التبين ، بمعنى : التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح . وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين : «فَتَثَبّتُوا » بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة . والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ ، لأن المتثبت متبين ، والمتبين متثبت ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُم السّلام } فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين «السّلَمَ » بغير ألف ، بمعنى الاستسلام ، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : { السّلامَ } بألف ، بمعنى التحية .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : «لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلَمَ » بمعنى : من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرّا لكم بملتكم . وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك ، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال : إني مسلم¹ ومن راو روى أنه قال : السلام عليكم ، فحياهم تحية الإسلام ، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه . وكل هذه المعاني يجمعها السلم ، لأن المسلم مستسلم ، والمحّيي بتحية الإسلام مستسلم ، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام ، فمعنى السّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الاَية ، وليس كذلك في السلام ، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية ، فلذلك وصفنا السّلم بالصواب .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } فقال بعضهم : معناه : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم ، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم ، فمنّ الله عليكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { كَذِلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تكتمون إيمانكم في المشركين .
وقال آخرون : معنى ذلك : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا ، فهداه كما هداكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } كفارا مثله ، { فَتَبَيّنُوا } .
وأولى هذين القولين بتأويل الاَية القول الأوّل ، وهو قول من قال : كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم ، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين ، مستخفيا بدينه منهم .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام ، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين ، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذا منهم ، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا ، فيقال : كما كان كافرا كنتم كفارا¹ بل لا وجه لذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله .
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فقال بعضهم : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فأظهر الإسلام .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : تاب الله عليكم .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير ، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } ما وصفنا قبل ، فالواجب أن يكون عقيب ذلك : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به ، من توحيده وعبادته ، حذرا من أهل الشرك .
استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون ، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحوالٍ قد يُتساهَل فيها وتعرِض فيها شبهٌ . والمناسبة ما رواه البخاري ، عن ابن عبّاس ، قال : كان رجل في غُنَيْمَة له فلَحقِه المسلمون ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتُه ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية . وفي رواية وقال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله . وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله وردّ غُنَيْمتَه واختلف في اسم القاتل والمقتول ، بعد الاتّفاق على أنّ ذلك كان في سريّة ، فروى ابن القاسم ، عن مالك : أنّ القاتل أسَامة بن زيد ، والمقتول مِرْدَاس بن نَهِيك الفَزَاري من أهل فَدَكَ ، وفي سيرة ابن إسحاق أنّ القاتل مُحلَّم من جَثامة ، والمقتول عامر بن الأضْبط . وقيل : القاتل أبو قتادة ، وقيل أبو الدرداء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وبّخ القاتل ، وقال له : " فَهَلاّ شققت عن بَطْنه فعلمتَ ما في قلبه " . ومخاطبتهم ب { أيها الذين آمنوا } تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه ، ولو كان قصْد القاتل الحرصَ على تحقَّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول ، فإنّ هذا التحقّق غيرُ مراد للشريعة ، وقد ناطت صفة الإسلام بقول : « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » أو بتحية الإسلام وهي « السلام عليكم » .
والضرب : السير ، وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } في سورة آل عمران ( 156 ) . وقوله : في سبيل الله ظرف مستقرٌ هو حال من ضمير { ضربتم } وليس متعلّقاً ب« ضربتم » لأنّ الضرب أي السيّر لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو ، ألا ترى قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىًّ } الآية .
والتبيّن : شدّة طلب البيان ، أي التأمّل القويّ ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل . ودخول الفاء على فِعل « تبيّنوا » لما في ( إذا ) من تضمّن معنى الاشتراط غالباً . وقرأ الجمهور : { فتبيّنوا } بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون من التبيّن وهو تفعّل ، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخَلف : { فتثبّتوا } بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة بمعنى اطلبوا الثابت ، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بَدَا لَكم .
وقوله : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً } قرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وخلف « السَّلَم » بدون ألف بعد اللام وهو ضدّ الحرْب ، ومعنى ألقى السلَم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم ، وقرأ البقية « السَّلام » بالألف وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب ، ومعنى تحية الإسلام ، فهي قول : السلام عليكم ، أي من خاطبَكم بتحية الإسلام علامةً على أنّه مسلم .
وجملة { لست مؤمناً } مَقول { لا تقولوا } . وقرأ الجمهور : { مؤمناً } بكسر الميم الثانية بصيغة اسم الفاعل ، أي لا تنْفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم ، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح الميم الثانية بصيغة اسم المفعول ، أي لا تقولوا له لست مُحصّلاً تأمينَنَا إياك ، أي إنّك مقتولا أو مأسُور . و { عرض الحياة } : متاح الحياة ، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب { عرض الحياة } تحقيراً لها بأنّها نفع عارض زائل .
وجملة { تبتغون } حالية ، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله ، فكان عدمُ تصديقه آئلاً إلى ابتغاء غنيمة ماله ، فأوخذوا بالمآل . فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام : لستَ مؤمناً ، وقتَله غير آخذ منه مالاً لكان حكمه أوْلى ممّن قصَد أخذ الغنيمة ، والقيد ينظر إلى سبب النزول ، والحكمُ أعّم من ذلك . وكذلك قوله : { فعند الله مغانم كثيرة } أي لم يحصر الله مغانمَكم في هذه الغَنيمة .
وزاد في التوبيخ قوله : { كذلك كنتم من قبل } أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام ، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك . وهذه تربية عظيمة ، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه ، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده . وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم ، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين ، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام .
وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية ، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة ، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه ، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه ، وبذلك ترتفع الثقة ، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق ، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق ، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين . على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة ، إذ لا يلبثون أن يألفوه ، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم ، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيماناً راسخاً ، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم .
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمرَ فقال : { فتبَيّنوا } تأكيداً ل ( تبينّوا ) المذكورِ قبْله ، وذيَّله بقوله : { إنّ الله كان بما تعملون خبيراً } وهو يجمع وعيداً ووعداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وبعث عليها غالب بن عبد الله الليثي أخا ثميلة بن عبد الله، فلما أصبحوا رأوا رجلا يسمى مرداس بن عمرو بن نهيك العنسي من بني تيم بن مرة من أهل فدك، معه غنيمة له، فلما رأى الخيل ساق غنيمته حتى أحرزها في الجبل، وكان قد أسلم من الليل وأخبر أهله بذلك، فلما دنوا منه كبروا، فسمع التكبير، فعرفهم، فنزل إليهم، فقال: سلام عليكم، إني مؤمن، فحمل عليه أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي من بني عبد ود، فقال مرداس: إني منكم أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فطعنه أسامة برمحه فقتله وسلبه وساق غنمه، فلما قدم المدينة أخبر أسامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلامه النبي ملامة شديدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قتلته وهو يقول: لا إله إلا الله؟"، قال: إنما قال ذلك أراد أن يحرز نفسه وغنمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه، فتنظر صدق أم لا؟"، قال: يا رسول الله، كيف يتبين لي؟ وإنما قلبه بضعة من جسده، فقال: "فلا صدقته بلسانه، ولا أنت شققت عن قلبه فيبين لك"، فقال: استغفر لي يا رسول الله، قال: "فكيف لك بلا إله إلا الله"، يقول ذلك ثلاث مرات، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم الرابعة. قال أسامة في نفسه: وددت أني لم أسلم حتى كان يومئذ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة. قال مقاتل، رحمه الله: فعاش أسامة زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، حتى أدرك علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فدعاه علي، رحمه الله، إلى القتال، فقال أسامة: ما أحد أعز علي منك، ولكن لا أقاتل مسلما بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف لك بلا إله إلا الله؟"...
فإن أتيت بسيف إذا ضربت به مسلما، قال السيف: هذا مسلم، وإن ضربت به كافرا، قال لي: هذا كافر، قاتلت معك، فقال له علي: اذهب حيث شئت، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله}، يعني سرتم غزاة في سبيل الله، {فتبينوا} من تقتلوا، {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام}، يعني مرداس، وذلك أنه قال لهم: السلام عليكم إني مؤمن، {لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا}، يعني غنم مرداس، {فعند الله مغانم كثيرة} في الآخرة والجنة، {كذلك}، يعني هكذا، {كنتم من قبل} الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقوكم، فلا تخيفون أحدا بأمر كان فيكم تأمنون بمثله قبل هجرتكم، {فمن الله عليكم} بالهجرة فهاجرتم، {فتبينوا} إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلما، {إن الله كان بما تعملون خبيرا} فقال أسامة: والله لا أقتل رجلا بعد هذا يقول: لا إله إلا الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا الله وصدّقوا رسوله، فيما جاءهم به من عند ربهم¹ {إذا ضَرَبْتُمْ فِي سبِيل اللّهِ}: إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم {فَتَبَيّنُوا}: فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله.
{وَتَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ}: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم، {لَسْتَ مُؤْمِنا} فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، يقول: طلب متاع الحياة الدنيا، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده.
{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}: كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلتم له لست مؤمنا فقتلتموه، كذلك أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز الله دينه بأتباعه وأنصاره، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم.
وقد قيل: إن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كنتم كفارا مثلهم. {فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ}: فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. وقد قيل: فمنّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام.
{فَتَبَيّنُوا}: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه، فلعلّ ألله أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان.
{إنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: إن الله كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم {خَبِيرا}: ذا خبرة وعلم به، يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وذكر أن هذه الآية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال: إني مسلم، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ، أو بعد ما سلم عليهم، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، أن ابن عمر، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله سُنّ اليوم وغيّر غدا! فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي! فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا غَفَرَ اللّهُ لَكَ»فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال: «إنّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنّ اللّهَ جَلّ وَعَزّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ». ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا}... الآية.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدّنْيا}... الآية. قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فشدّ عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: «كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاّ اللّهُ»؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوّذا، تعوّذ بها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ؟» قال: يا رسول الله إنما قلبه بَضْعَة من جسده. فأنزل الله عزّ وجلّ خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا} فلما بلغ: {فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {فَتَبَيّنُوا} فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين: {فَتَبَيّنُوا} بالباء والنون من التبين، بمعنى: التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح. وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين: «فَتَثَبّتُوا» بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة. والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ، لأن المتثبت متبين، والمتبين متثبت، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُم السّلام} فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين «السّلَمَ» بغير ألف، بمعنى الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: {السّلامَ} بألف، بمعنى التحية.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: «لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلَمَ» بمعنى: من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرّا لكم بملتكم. وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال: إني مسلم¹ ومن راو روى أنه قال: السلام عليكم، فحياهم تحية الإسلام، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه. وكل هذه المعاني يجمعها السلم، لأن المسلم مستسلم، والمحّيي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى السّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية، وليس كذلك في السلام، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية، فلذلك وصفنا السّلم بالصواب.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم، فمنّ الله عليكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا، فهداه كما هداكم.
وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الأوّل، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين، مستخفيا بدينه منهم.
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا، فيقال: كما كان كافرا كنتم كفارا¹ بل لا وجه لذلك، لأن الله جلّ ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله.
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله: {فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمنّ الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ما وصفنا قبل، فالواجب أن يكون عقيب ذلك: {فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به، من توحيده وعبادته، حذرا من أهل الشرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها. وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأفعال بقوله: {فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} وقال تعالى في الخبر: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} (الحجرات: 6)؛ أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة كما أمر في الأفعال نبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء: 36)...
{وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}، فَحَكَمَ الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام، وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المُغَيَّبِ على خلافه...
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني به الغنيمة. وإنما سمّى متاع الدنيا عرضاً لقلة بقائه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَاشِرُوا الناسَ على ما يُظْهِرُون من أحوالهم، ولا تَتَفَرَّسوا فيهم بالبطلان؛ فإنَّ مُتَوَلِّيَ الأسرار الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيراً منه تعالى، لأن المعنى {إن الله بما تعملون خبيراً}، فاحفظوا نفوسكم، وجنبوا الزلل الموبق بكم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
إِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَوْ يَكُونَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الَّذِي قَالَ عُلِمَ إسْلَامُهُ؛ فَأَمَّا كَوْنُهُ عَامِرَ بْنِ الْأَضْبَطِ فَبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَامِرٍ قَدِ اخْتَلَفَت اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، تبيِّنُ أَنَّ قَتْلَ مُحَلِّمٍ إنَّمَا كَانَ لِإِحْنَةٍ وَحِقْدٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَالهِ، وَكَيْفَمَا تَصَوَّرَ الْأَمْرَ فَفِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ نَزَلَتْ، وَغَيْرُهَا يَدْخُلُ فِيهَا بِمَعْنَاهَا.
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَقِيَ الْكَافِرَ لَا عَهْدَ لَهُ جَازَ لَهُ قَتْلُهُ؛ فَإِنْ قَالَ لَهُ الْكَافِرُ:"لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ؛ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ. فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ.
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَاصِمٌ كَيْفَمَا قَالَهَا.
وَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ.
اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبيت فيه لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين...
الضرب معناه: السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد، وأصله من الضرب باليد، وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنسانا كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة، فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير...
ثم قال تعالى: {تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة}... وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير باق... فقوله: {فعند الله مغانم كثيرة} يعني ثوابا كثيرا، فنبه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء، وبقوله: {فعند الله مغانم كثيرة} على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء كما قال: {والباقيات الصالحات خير عند ربك}...
قال تعالى: {فمن الله عليكم} وفيه احتمالان:
الأول: أن يكون هذا متعلقا بقوله: {كذلك كنتم من قبل} يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب، أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلا بسبب ضعيف، ثم من الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له.
والثاني: أن يكون هذا منقطعا عن هذا الموضع، ويكون متعلقا بما قبله، وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله، ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك {فمن الله عليكم} أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر. ثم أعاد الأمر بالتبيين فقال: {فتبينوا} وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل. ثم قال تعالى: {إن الله كان بما تعملون خبيرا} والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد، وكان ربما التبس الحال؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال: ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام؟ فقال: {يا أيها الذين أمنوا} مشيراً بأداة البعد والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراسخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه صلى الله عليه وسلم وينقادون لأمره، بما دلت عليه كلمة "إذا "في قوله تعالى: {إذا ضربتم} أي سافرتم وسرتم في الأرض {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله، لأجل وجهه خالصاً {فتبينوا} أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم... {ولا تقولوا} قولاً فضلاً عما هو أعلى منه {لمن ألقى} أي كائناً من كان {إليكم السلام} أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده {لست مؤمناً} أي بل متعوذ -لتقتلوه. ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل "تقولوا" {تبتغون} أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله {عرض الحياة الدنيا} أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله... ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله: {فعند الله} أي الذي له الجلال والإكرام {مغانم كثيرة} أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها؛ ثم علل النهي من أصله بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام {كنتم} وبعّض زمان القتل- كما هو الواقع -بقوله: {من قبل} أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام {فمنّ الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليكم} أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم. فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم، وهو معنى ما سبب عن الوعظ من قوله تأكيداً لما مضى إعلاماً بفظاعة أمر القتل: {فتبينوا} أي الأمور وتثبتوا فيها حتى تنجلي؛ ثم علل هذا الأمر بقوله مرغباً مرهباً: {إن الله} أي المختص بأنه عالم الغيب والشهادة {كان بما تعملون خبيراً} أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين و غيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في الآية السابقة بعض أحكام المنافقين ومنه نهي المؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ومنها أن الذين يلقون إلى المؤمنين السلم ويعتزلون قتالهم لا يجوز لهم أن يقاتلوهم. فنهى عن قتل من لم يقاتل. ثم ذكر أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ. وبعد هذا أراد تعالى أن ينبه المؤمنين على ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين. وذلك أن الإسلام كان قد انتشر ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميلون إلى الإسلام ويتربصون الفرص للاتصال بأهله للدخول فيهم فأعلم الله المؤمنين بذلك وأمرهم أن لا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا وأن يتبينوا فيمن تظهر منهم علامات الإسلام كالشهادة أو السلام الذي هو تحية المؤمنين وعلامة الأمن والاستئمان، وأن لا يحملوا مثل هذا على المخادعة إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن تمكن فيها، وقد أفادت الآية أن ما سبق من قتل من ألقى السلام لشبهة التقية قد مضى على أنه من قتل الخطأ وأن الله تعالى أراد بإنزالها أن يعد ما يقع منه بعد نزولها من قتل العمد لأنه أمر فيها بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإسلام ولو بإلقاء تحيته فكيف بمن ينطق بالشهادتين. ثم ذكر ما من شأنه أن يقوي الشبهة في نفس من يظن أن إظهار الإسلام لأجل التقية وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا. فهدى المؤمن بهذا إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبني الظن على ميله وهواه، بل أوجب عليه أن يبني على الظاهر ويقبله حتى يتبن له خلافه... أقول ويزاد على هذا أن إلقاء السلام قد يكون إلقاء للسلم وإيذانا بعدم الحرب، وقرئ في المتواتر (السلم) وقد علم من الآيات السابقة في هذا السياق نفسه النهي عن قتل الذين يعتزلون القتال ويكفون أيديهم عنه ويلقون السلم إلى المؤمنين فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل، إذ ليس الكفر وحده هو الموجب له...
وحكم الآية يعمل به بصرف النظر عن سبب نزولها وهو أن كل من أظهر الإسلام يقبل منه ويعد مسلما ولا يبحث عن الباعث له على ذلك، ولا يتهم في صدقه وإخلاصه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة... فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم... وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها...
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة -من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: {فَتَبَيَّنُوا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واحتراسا من وقوع القتل ولو كان خطأ؛ وتطهيرا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله، وفي سبيل الله.. يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان [إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان].
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا؛ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا. تبتغون عرض الحياة الدنيا. فعند الله مغانم كثيرة. كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم. فتبينوا. إن الله كان بما تعملون خبيرًا)..
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية: خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلا معه غنم له. فقال السلام عليكم. يعني أنه مسلم. فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها، فقتله.
ومن ثم نزلت الآية، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم.. وكلاهما يكرهه الإسلام.
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله. إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه.. وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين. وقد يكون دم مسلم عزيز، لا يجوز أن يراق.
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة. ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم. ويمن عليهم أن شرع لهم حدودا وجعل لهم نظاما؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر. كما كانوا في جاهليتهم كذلك.. وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم -على قومهم- من الضعف والخوف، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين.
كذلك كنتم من قبل. فمن الله عليكم. فتبينوا. إن الله كان بما تعملون خبيرًا.
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله.. وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها.
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة. منذ أربعة عشر قرنا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التبيّن: شدّة طلب البيان، أي التأمّل القويّ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل...
أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة...
و {عرض الحياة}: متاع الحياة، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب {عرض الحياة} تحقيراً لها بأنّها نفع عارض زائل...
وجملة {تبتغون} حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله، فكان عدمُ تصديقه آئلاً إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل...
{كذلك كنتم من قبل} أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه،... وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين. على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيماناً راسخاً، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن الذين يقتلون من يطلب الأمان مستسلما، أو من يعلن الإسلام مسلما، يخرج قتالهم عن معنى الجهاد في سبيل الله تعالى إلى معنى آخر يجافيه، وهو أن يبتغوا عرض الدنيا بالمال يطلبونه، أو بإعلان قوتهم، وليس مقصد الإسلام من القتال، إنما مقصده إعلاء كلمة الله تعالى، وبيان كلمة الحق،... {إن الله كان بما تعلمون خبيرا} أي أن الله تعالى متصف بالعلم الدقيق، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فالخبرة هي العلم الدقيق بالأشياء. وقد اقترن ذلك الوصف بأعمال المؤمنين المخاطبين بذلك الخطاب لبيان مراقبة الله تعالى الدائمة لأعمالهم، دقيقها وجليلها، ولأحوال نفوسهم ما ظهر منها وما بطن، وأنه لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض. وقد قدم سبحانه وتعالى لفظ "بما تعملون "على الوصف العام، ليراقبوا أنفسهم، فقد علموا أن الله تعالى يراقبهم وأنهم إذا لم يراقبوه في تصرفاتهم مع خلقه فهو تعالى يراقبهم...
إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}، والخطاب الإيماني حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل: {يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا}، ولكنه قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} فهو يطلب المؤمنين به بحكم لانهم آمنوا به إلها، وماداموا قد آمنوا فعليهم إتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام ان المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول:"ما العلة" أو "ما الحكمة "وذلك حتى لا تدخل نفسك في متاهة. ولا نزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو في أذهان الناس كثيرا، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء، ولذلك نقول: الشيء إذا عرفت حكمته صرت إلى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم...
ونرى الآن المسرفين على أنفسهم الذين لا يؤمنون بالله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، إلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر على سبيل المثال نجده قد تليف، وان أي جرعة خمر ستسبب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع؟. لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسيا، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذا لأمر إلهي؟. لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال: إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار؟ إنه قد يحرم أمرا تأديبيا للإنسان. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نجد الزوج يقول لزوجه: إياك أن تعطي ابننا بعضا من الحلوى التي أحضرتها. وهو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه...
والحق يقول: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (من الآية160سورة النساء). فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصا، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجها من الوجوه اللانهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان: انا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال. وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلم بها. والحق يقول: {يا أيها الذين آمنوا} والإيمان هو الحيثية، يا من آمنت بي إلها قادرا حكيما.. اسمع مني ما أريده: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} والضرب كما نعرف هو انفعال الجارحة على شيء آخر بعنف وقوة. وقوله: {وإذا ضربتم في الأرض} (من الآية101سورة النساء)...
معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب في الأرض؟. لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فحين يحبون أن يخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الري. ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هي عملية إثارة الأرض. إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} (من الآية20سورة المزمل). ومادامت المسألة ضربا في الأرض فهي تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة. ولذلك يقال: الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان في الأرض أخرجت له خيرا. والضرب في سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (من الآية60سورة الأنفال)...
فالإعداد هو أمر يسبق المعارك، وكيف يتم الإعداد؟. إن نقوم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وإن نقوم بإعداد العدد. والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة. ولذلك يقال في الأثر الصالح: "إن السهم الواحد في سبيل الله يغفر الله به لأربعة". لماذا؟. لأن هناك إنسانا قام بقطع الخشب الذي منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الأمام، وهناك واضع النبل، وهناك من يرمي السهم بالقوس. والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا، فيقول: {إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} ونعرف أن الضرب في سبيل الله لا يكون في ساعة الجهاد فقط، ولكن في كل أحوال الحياة؛ ... لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. {وتبينوا} تعني ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمرا أو تعملوا عملا إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قوما بظلم...
و" التبين "القصد منه التثبت، والتبين يقتضي الذكاء والفطنة فيرى ملامح إيمان من ألقى إليه بالسلام: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} (من الآية 94سورة النساء)...
فالمسلم يجب أن يفطن كيلا يأخذ إنسانا بالشبهات، ولذلك نجد النبي يحزم الأمر مع أسامة بن زيد الذي قتل واحدا بعد أن أعلن هذا الواحد إسلامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فكيف بلا إله إلا الله. هل شققت عن قلبه)؟. ويقول أسامة للرسول: لقد قال الشهادة ليحمي نفسه من الموت. وتكون الإجابة: هل شققت قلبه فعرفت، فكيف بلا إله إلا الله؟! فلقول:"لا إله إلا الله "حرمة...
و {ألقى إليكم السلام} يعني جاءكم مستسلما، أو قال تحية المسلمين، وليس من حق أحد أن يلقي الاتهام بعدم الإيمان على من جاء مسلما، أو يقول بتحية الإسلام...
وكلمة" عرض "إذا ما سمعناها، فلنعلم أنها في المعنى اللغوي: كل ما يعرض ويزول وليس له دوام أو استقرار أو ثبات. ونحن البشر أعراض؛ لأنه ليس لنا دوام أبدا، ويقال: إن الإنسان عرض إذا ما قاس الواحد منا نفسه بالنسبة للكون؛ لأن الكون لا يتم بناؤه على الإنسان؛ فالكون كله الذي نراه هو عرض وسيأتي يوم ويزول. والعرض بالنسبة للإنسان أن الواحد منا قد يرى نفسه صحيحا أو سقيما، هنا تكون الصحة عرضا وكذلك المرض، وكذلك السمنة والنحافة، ولون البشرة إذا ما لوحته الشمس قد يتغير من أبيض إلى أسمر، وكذلك الغنى والفقر. وكل شيء يمكن أن يذهب في الإنسان ويجيء هو عرض بالنسبة للإنسان، ويكون الإنسان جوهرا بالنسبة له. فإذا قسنا الإنسان بالنسبة إلى ثابت عنه، فالإنسان عرض، فهذا أمر نسبي، وإلا فكل شيء عرض، وكل شيء زائل {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}...
{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا}. وعرض الحياة الدنيا هنا هو أن يطمع القاتل فيما يملكه الذي يلقي السلام، وقد يكون عرض الحياة الدنيا هنا هو كبرياء نفس الإنسان عندما ينتقم من إنسان بينه وبينه إحن أو بغضاء. وعندما نجد كلمة" عرض "وهذا العرض في" الحياة الدنيا "نفهم إذن أنه عرض فيما لا قيمة له... وكذلك عرض الحياة الدنيا. ونفهم كلمة" دنيا "على أساس الاشتقاق، فهي من" الدنو "ومقابله" العلو "ومقابل" الدنيا "هو" العليا". ومن يقوم عرض الحياة الدنيا التقويم الصحيح فهو يملك الذكاء والحكمة والفطنة؛ لذلك لا يأخذ هذا العرض ممن سيقتله عندما يلقى إليه بالسلام؛ لأنه يستخدم البصيرة الإيمانية ويأخذ الحياة الدنيا ممن خلقها؟ والعاقل حتى لو أراد الحياة الدنيا فهو يطلبها من صاحب الحياة كلها، ولا يأخذها من إنسان مثله، فالحياة الدنيا لا تنفعه؛ بدليل أنه معرض للقتل...
{تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة} والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب النفس البشرية التي خلقها، ويعلم تعلقها بالأشياء التي تنفعها أو تطيل نفعها، مثال ذلك: إن الإنسان يكون سعيدا إذا ما ملك غداءه، وتكون سعادته أكثر إذا امتلك الغداء والعشاء، ويكون أكثر سعادة واطمئنانا عندما يملك في مخزن طعامه ما يقيته شهرا أو عاما، ويكون أكثر إشراقا عندما يمتلك أرضا يأخذ منها الرزق، ويمتلكها أولاده من بعده. إذن فالإنسان يحب الحياة لنفسه، ويحب امتداد حياته في غيره، ولذلك يحزن الإنسان عندما لا يكون له أولاد؛ فهو يعرف أنه ميت لا محالة، لذلك فهو يتمنى أن تكون حياته موصولة في ابنه، وإن جاء لابنه ابن وصار لإنسان حفيد فهو يسعد أكثر؛ لأن ذكره يوجد في جيلين. ونقول لمثل هذا الإنسان: لنفرض أنك ستحيا ألف جيل، لكن ماذا عن حالتك في الآخرة، ألا تنشئ ولدك على الصلاح حتى يدعو لك؟...
وقوله الحق: {تبتغون عرض الحياة الدنيا} ينطبق في كل عصر وفي كل زمان. ويقول الحق بعد ذلك: {فعند الله مغانم كثيرة}. فسبحانه الرزاق الوهاب. ولذلك أنا أحب أن يزين الناس أماكنهم ومساكنهم بلوحات فنية مكتوب عليها: {وإن خفتم عيلة يغنيكم الله من فضله} (من الآية28 سورة التوبة). وكذلك قول الحق: {تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة} (من الآية94 سورة النساء). لعل ذلك يمس قلوب من بيدهم الأمر، فيلتفتوا إلى الله. وبعد ذلك يقول الحق: {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا}. وفي هذا دعوة لأن يمر من نزل فيهم القرآن بتاريخهم القريب ويسترجعوا ماضيهم، فلماذا يتهم المسلم أخاه الذي يلقي السلام بأنه مازال كافرا ولا يفكر ان الذي ألقى إليه السلام هو إنسان يستر إسلامه بين أهله لأنهم كفار؟ وكان المسلم يمر بهذه الحالة عند بداية الإسلام؛ كان المسلم يستر إسلامه عن أهله الذين كانوا كافرين. وكان المسلمون الأوائل قلة مستذلة تداري إيمانها، فهل سلط الله عليهم أحدا يجترئ على التفتيش على النوايا؟ إذن فمثلما حدث لكم قدروه لإخوانكم...
{كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم} والحق يمن عليهم بأنهم صاروا أهل رفعة بكلمة الإسلام، وصار المسلم منهم يمشي عزيز الجانب ولا يجرؤ واحد أن يوجه إليه أي شيء. ويأتي سبحانه هنا بكلمة {فتبينوا} مرة أخرى بعد أن قالها في صدر الآية. وكان مقصودا بها ألا يقتل مسلم إنسانا ألقى السلام لمجرد أن المسلم يفكر في المسألة الاقتصادية، وها هو ذا يعيد سبحانه كلمة "تبينوا"، لقد جاءت أولا كتمهيد للحيثية، وهي قوله {تبتغون عرض الحياة الدنيا} وتأتي هاهنا نتيجة للحيثية {فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا}. وسبحانه حين يشرع لا يشرع عن خلاء، لكنه خبير بكل ما يصلح النفس الإنسانية، ولا يعتقدن أحد أنه خلقنا ثم هدانا إلى الإيمان ليخذلنا في نظام الحياة، بل خلقنا وأعطانا المنهج لنكون نموذجا، وليرى الناس جميعا أن الذي يحيا في رحاب المنهج تدين له الدنيا. {إن الله كان بما تعملون خبيرا}. كان الحق يقول: إياك أن تستر بلباقتك شيئا وتخلع عليه أمرا غير حقيقي؛ لأن الذي تطلب جزاءه هو الرقيب عليك والحسيب، ويعلم المسالة من أولها إلى آخرها. فالذي قتل إنسانا ألقى إليه السلام، لم يقتله لأنه لم يسلم، ولكن لأن بينهما إحنا وبغضاء، وعليه أن يعرف أن الله عليم بما في النفوس...
ويريد الحق أن يتثبت المؤمن من نفسه حين يوجهها إلى قتل أحد يشك في إسلامه أو في إيمانه، وحسبه من التيقن أن يبدأه صاحبه بالسلام، ويذكر الحق سبحانه المؤمنين بأنهم كانوا قبل ذلك يستخفون من الناس بالإيمان وكانوا مستترين. فإذا كنتم أيها المؤمنون قد حدث لكم ذلك فاحترموا من غيركم أن يحصل منه ذلك، وثقوا تمام الثقة أن الله عليم خبير، لا يجوز عليه سبحانه ولا يخفى عليه أن يدس أحدكم الإحن النفسية ليبرر قتل إنسان مسلم كانت بينه وبين ذلك المسلم عداوة. وبعد أن تكلم الحق عن قتال المؤمنين للكافرين، وبعد أن تكلم عن تحريم قتل المؤمن للمؤمن حتى لا يفقد المؤمنون خلية الإيمان، بل تكون حياة كل مؤمن خيرا للحركة الإيمانية في الأرض، لذلك علينا أن نحافظ على حياة كل فرد مؤمن لأنه سيساعدنا في اتساع الحركة الإيمانية، فإن حدث أن قتل مؤمن مؤمنا خطأ، فقد بين سبحانه وتعالى الحكم في الآية رقم92 من سورة النساء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن وردت التأكيدات اللازمة في الآيات السابقة فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إِلى حماية أرواح الأبرياء الذين قد يعرضون إِلى الاتهام من قِبل الآخرين، إِذ تقول: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إِليكم السلام لست مؤمناً...).
تأمر هذه الآية المسلمين أن يستقبلوا بكل رحابة صدر أُولئك الذين يظهرون الإِسلام وأن يتجنبوا إِساءة الظن بإِيمان أو إِسلام هؤلاء، وتؤكد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سبباً في إتهام أفراد أظهروا الإِسلام، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والاستيلاء على أموالهم، إِذ تقول الآية: (...تبتغون عرض الحياة الدنيا...). وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند الله بقوله: (...فعند الله مغانم كثيرة).
وتشير الآية أيضاً إِلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول: (...كذلك كنتم من قبل...) وتضيف مخاطبة المسلمين أنّهم في ظل الإِسلام ولطف الله وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السيء مؤكّدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت
من الأُمور، إِذ تقول الآية: (...فمن الله عليكم فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيراً).
الجهاد الإِسلامي نفي من البعد المادي:
توضح الآية السالفة هذه الحقيقة بصورة جلية، وهي أنّ أي مسلم يجب أن لا يتقدم إِلى ساحة الجهاد بأهداف مادية، ولذلك عليه أن يقبل منذ الوهلة الأُولى من العدو إِظهاره للإِيمان ويلبي نداءه للصلح والسلام، حتى لو حرم المسلم بقبوله إِيمان العدو الكثير من الغنائم المادية، والسبب في ذلك أن هدف الجهاد في الإِسلام ليس التوسع ولا الاستيلاء على الغنائم المادية، بل الهدف من الجهاد الإِسلامي هو تحرير البشر من قيود العبودية لغير الله، سواء كان هذا الغير هم الطغاة الجبابرة، أو كانت العبودية للمال وللثروة والجاه، ويجب على كل مسلم أن يسعى إِلى هذه الحقيقة كلما برقت له بارقة أمل صوبها.
وتذكّر الآية الكريمة المسلمين بعهدهم في الجاهلية، حيث كانوا يحملون الأفكار المادية الدنيئة قبل إِسلامهم، فكانوا يتسببون في إِراقة سيول من الدماء لأسباب مادية محضة، وقد نجوا اليوم بفضل إِسلامهم وإِيمانهم من تلك الحروب وتغير أُسلوب حياتهم.
كما تشير الآية إِلى حقيقة أُخرى، وهي أنّ المسلمين ساعة إِظهارهم الإِسلام لم يكن أحد ليعرف حقيقة هذا الإِظهار أو حقيقة ما ينويه المظهر للإِسلام، وتؤكد لهم ضرورة أن يطبقوا ما كانوا هم عليه عند إِسلامهم على من يظهر الإِسلام أمامهم من الأعداء.
قد يطرأ على الذهن سؤال، وهو لو أنّ الإِسلام قبل دعوى كل من يتظاهر بالإِسلام منذ الوهلة الأُولى دون التحقيق من حقيقة هذه الدعوى، لأصبح ذلك سبباً في إِيجاد أرضية النفاق وظهور المنافقين في المحيط الإِسلامي، وبهذا الأُسلوب يمكن للكثير من الأعداء إِساءة استغلال هذه الظاهرة والتستر في ظل الإِسلام، ومن خلال ذلك القيام بأعمال عدائية ضد الإِسلام؟
من الممكن القول أن ليس هناك قانون في العالم لا يمكن إِساءة استغلاله أبداً، بل المهم في القانون هو أن يحوي في أغلب جوانبه النفع للعموم، لو رفضنا منذ الوهلة الأُولى إِسلام من يظهر الإِسلام من الأعداء وغيرهم لمجرّد عدم معرفتنا بسريرة هذا الذي يظهر الإِسلام، لأدى رفضنا في كثير من الحالات إِلى مفاسد لا تحمد عقباها، بل ستكون أكثر ضرراً على الإِسلام، إِذ أنّها تعني سحق المبادئ والعواطف الإِنسانية، ويكون هذا الرفض عند ذلك وسيلة بيد كل من يضمر العداء لصاحبه ليتهمه بأنّ إِظهاره للإِسلام لم يكن إِظهاراً حقيقياً مخلصاً أو مطابقاً لما في سريرته، وبهذه الصورة من الممكن أن تراق دماء كثيرة لأناس أبرياء.
وفوق كل ذلك فإِنّ الكثيرين لدى بدء كل دعوة ممن تكون توجهاتهم لهذه الدّعوة بسيطة وشكلية وظاهرية، ولكنهم بمرور الزمان واتصالهم الدائم بتلك الدّعوة تتجذر في نفوسهم مبادئ الدعوة وتتأصل وتتعزز، لذلك لا يمكن القبول برفض مثل هؤلاء الضعيفي الصلة بالدّعوة.