قوله تعالى : { له دعوة الحق } ، أي : لله دعوة الصدق . قال علي رضي الله عنه : دعوة الحق التوحيد . وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدعاء بالإخلاص ، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله عز وجل . { والذين يدعون من دونه } ، أي : يعبدون الأصنام من دون الله تعالى . { لا يستجيبون لهم بشيء } ، أي : لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر ، { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } ، أي : إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء والقابض على الماء لا يكون في يده شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء ، كذلك الذي يدعو الأصنام ، وهي لا تضر ولا تنفع ، لا يكون بيده شيء . وقيل : معناه كالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد ، فهو يشير بكفه إلى الماء ، ويدعوه بلسانه ، فلا يأتيه أبدا ، هذا معنى قول مجاهد . ومثله عن علي وعطاء : كالعطشان الجالس على شفير البئر ، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا يرتفع إليه الماء ، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه له ، ولا هو يبلغ فاه كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم ، وهي لا تقدر على شيء . وعن ابن عباس : كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء ، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه . وهو مثل ضربه لخيبة الكفار . { وما دعاء الكافرين } ، أصنامهم ، { إلا في ضلال } ، يضل عنهم إذا احتاجوا إليه ، كما قال : { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأنعام-24 وغيرها ] . وقال الضحاك عن ابن عباس : وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى .
{ 14 } { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }
أي : لله وحده { دَعْوَةُ الْحَقِّ } وهي : عبادته وحده لا شريك له ، وإخلاص دعاء العبادة ودعاء المسألة له تعالى ، أي : هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء ، والخوف ، والرجاء ، والحب ، والرغبة ، والرهبة ، والإنابة ؛ لأن ألوهيته هي الحق ، وألوهية غيره باطلة { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأنداد التي جعلوها شركاء لله .
{ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ } أي : لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ولا كثير لا من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة { إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ } الذي لا تناله كفاه لبعده ، { لِيَبْلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء { فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده ، ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه ، فلا يصل إليه .
كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة لأنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء ، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير .
{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } لبطلان ما يدعون من دون الله ، فبطلت عباداتهم ودعاؤهم ؛ لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها ، ولما كان الله تعالى هو الملك الحق المبين ، كانت عبادته حقًّا متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والآخرة .
وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة ؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال ، فكما أن هذا محال ، فالمشبه به محال ، والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }
ثم بين - سبحانه - أن دعوته هي الدعوة الحق ، وما عداها فهو باطل ضائع فقال : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } أى : له وحده - سبحانه - الدعوة الحق المطابقة للواقع ، لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو الحقيق بالعبادة والالتجاء .
فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ، وفى هذه الإِضافة إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وأنها بمعزل عن الباطل .
ومعنى كونها له : أنه - سبحانه - شرعها وأمر بها .
قال الشوكانى : قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة . أى : الدعوة الملابسة للحق ، المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه .
وقيل : الحق هو الله - تعالى - والمعنى : أنه لله - تعالى - دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب .
وقيل : المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإِخلاص والمعنى : لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له العبادة .
وقيل : دعوة الحق ، دعاؤه - سبحانه - عند الخوف ، فإنه لا يدعوى فيه سواه ، كما قال - تعالى - { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقيل : الدعوة الحق ، أى العبادة الحق فإن عبادة الله هي الحق والصدق .
ثم بين - سبحانه - حال - من يعبد غيره فقال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } .
والمراد بالموصول { والذين } الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله .
والضمير في يدعون ، للمشركين ، ورابط الصلة ضمير نصب محذوف أى : يدعونهم .
والمعنى : لله - تعالى - العبادة الحق ، والتضرع الحق النافع ، أما الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله . فإنها لا تجيبهم إلى شئ يطلبونه منها ، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد ، طالبا منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق ، لأن الماء لا يحس ولا يسمع نداء من يناديه .
والمقصود من الجملة الكريمة نفى استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيا قاطعا ، حيث شبه - سبحانه - حال هذه الآلهة الباطلة عندما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه ، بحال إنسان عطشان ولكنه غبى أحمق لأنه يمد يده إلى الماء طالبا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه . فلا يصل إليه شئ من الماء لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله - تعالى - .
وأجرى - سبحانه - على الأصنام ضمير العقلاء في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين ، لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء .
ونكر شيئا في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } للتحقير . والمراد أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة حتى ولو كانت شيئا تافها .
والاستثناء في قوله { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء . . . } من أعم الأحوال .
أى : لا يستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئا ، إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه يطلب منه أن يدخل فمه ، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب طلبه ولو مكث على ذلك طوال حياته .
والضمير " هو " في قوله { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } للماء ، والهاء في " ببالغه " للفم : أى : وما الماء ببالغ فم هذا الباسط لكفيه .
وقيل الضمير " هو " للباسط ، والهاء للماء ، أى : وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه .
قال القرطبى : " وفى معنى هذا المثل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه ، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب ، وما الماء ببالغ إليه ، قاله مجاهد .
الثانى : أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، لكذب ظنه وفساد توهمه . قاله ابن عباس .
الثالث : أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه ، فلا يجد في كفه شيئا منه .
وقد ضربت العرب مثلا لمن سعى فيما لا يدركه ، بالقبض على الماء كما قال الشاعر :
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض . . . على الماء ، خانته فروج الأصابع
وقوله - سبحانه - { وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أى : وما عبادة الكافرين للأصنام ، والتجاؤهم إليها في طلب الحاجات ، إلا في ضياع وخسران لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ } .
يقول تعالى ذكره : لله من خلقه الدعوة الحق ، والدعوة هي الحقّ كما أضيفت الدار إلى الاَخرة في قوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ وقد بيّنا ذلك فيما مضى . وإنما عنى بالدعوة الحقّ : توحيد الله ، وشهادة أن لا إله إلاّ الله .
وبنحو الذي قلنا أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : شهادة لا إله إلاّ الله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : التوحيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ : لا إله إلاّ الله ليست تنبغي لأحد غيره ، لا ينبغي أن يقال : فلان إله بني فلان .
وقوله : والّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يقول تعالى ذكره : والاَلهة التي يدعوها المشركون أربابا وآلهة . وقوله مِنْ دُونِهِ يقول : من دون الله وإنما عنى بقوله : مِنْ دُونِهِ الاَلهة أنها مقصرة عنه ، وأنها لا تكون إلها ، ولا يجوز أن يكون إلها إلاّ الله الواحد القهار ومنه قول الشاعر :
أتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِياحٍ *** كَذَبْتَ لَتَقُصُرّنَ يَداكَ دُونِي
وقوله : لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يقول : لا تجيب هذه الاَلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهة بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرّ . إلاّ كباسطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ يقول : لا ينفع داعي الاَلهة دعاؤه إياها إلاّ كما ينفع باسطَ كفيه إلى الماء ، بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء ، ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه . والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقابض على الماء . قال بعضهم :
فإنّي وَإيّاكُمْ وَشَوْقا إلَيْكُمُ *** كقابِضِ ماءٍ لَمْ تَسِقْه أنامِلُهْ
يعني بذلك : أنه ليس في يده من ذلك إلاّ كما في يد القابض على الماء ، لأن القابض على الماء لا شيء في يده . وقال آخر :
فأصْبَحْتُ ممّا كانَ بَيْنِي وبَيْنَها *** مِنَ الوُدّ مِثْلَ القابِضِ المَاءَ باليَدِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ قال : كالرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، ولا يأتيه أبدا .
قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني الأعرج ، عن مجاهد : لِيَبْلُغَ فاهُ يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه ، كذلك لا يستجيب من هو دونه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، فلا يأتيه أبدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن ، عن حجاج ، قال ابن جريج : وقال الأعرج عن مجاهد : لِيَبْلُغَ فاهُ قال : يدعوه لأن يأتيه وما هو بآتيه ، فكذلك لا يستجيب من هو دونه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وليس ببالغه حتى يتمزّع عنقه ويهلك عطشا ، قال الله تعالى : وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ هذا مَثَلٌ ضربه الله أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدا ولا يسوق إليه خيرا ولا يدفع عنه سوءا حتى يأتيه الموت ، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشا .
وقال آخرون : معنى ذلك : والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه ، وما هو ببالغ ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ ليَبْلُغَ فاهُ فقال : هذا مثل المشرك مع الله غيره ، فمثَله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه .
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ . . . إلى : وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : مثل الأوثان الذين يُعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه ، يقول الله : لا تستجيب الاَلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كَفّا هذا فاه ، وما هما ببالغتين فاه أبدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالغهِ قال : لا ينفعونهم بشيء إلاّ كما ينفع هذا بكفّيه ، يعني بسطهما إلى ما لا ينال أبدا .
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطا كفيه لا يقبضهما وَما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ قال : هذا مثل ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلها أنه غير نافعه ، ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك .
وقوله : وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والاَلهة إلاّ في ضلال : يقول : إلاّ في غير استقامة ولا هُدًى ، لأنه يشرك بالله .
الضمير في { له } عائد على اسم الله عز وجل ، وقال ابن عباس : { دعوة الحق } : لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : وما كان من الشريعة في معناها .
وقال علي بن أبي طالب : { دعوة الحق } : التوحيد . ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق ، ودعاء غيره من الأوثان باطل .
وقوله : { والذين } يراد به ما عبد من دون الله ، والضمير في { يدعون } لكفار قريش وغيرهم من العرب . .
وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء : «تدعون من دونه » بالتاء من فوق ، و { يستجيبون } بمعنى يجيبون ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وداع دعا : يا من يجيب إلى النِّدا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب{[6944]}
ومعنى الكلام : والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء . ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط { كفيه } نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه ، فلا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع{[6945]} . وقوله : { هو } يراد به الماء ، وهو البالغ ، والضمير في «بالغة » للفم ، ويصح أن يكون { هو } يريد به الفم وهو البالغ أيضاً ، والضمير في «بالغه » للماء ، لأن الفم لا يبلغ الماء أبداً على تلك الحال .
ثم أخبر تعالى عن { دعاء الكافرين } أنه في انتلاف و { ضلال } لا يفيد فيه شيئاً ولا يغنيه .