البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ} (14)

الكف : عضو معروف ، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك ، وفي الكثرة كفوف كصكوك ، وأصله مصدر كف .

والضمير في له عائد على الله تعالى ، ودعوة الحق قال ابن عباس : دعوة الحق لا إله إلا الله ، وما كان من الشريعة في معناها .

وقال علي بن أبي طالب ، دعوة الحق التوحيد .

وقال الحسن : إن الله هو الحق ، فدعاؤه دعوة الحق .

وقيل : دعوة الحق دعاؤه عند الخوف ، فإنه لا يدعي فيه إلا هو ، كما قال : { ضل من تدعون إلا إياه } قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية .

وقيل : دعوة الطلب الحق أي : مرجو الإجابة ، ودعاء غير الله لا يجاب ، وقال الزمخشري : فيه وجهان .

أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قوله : «كلمة الحق » للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل ، والمعنى : أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له ، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه .

والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب .

وعن الحسن رحمه الله : الحق هو الله تعالى ، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى .

وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر ، لأنّ مآله إلى تقدير : لله دعوة لله ، كما تقول : لزيد دعوة زيد ، وهذا التركيب لا يصح .

والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله : ولدار الآخرة على أحد الوجهين ، والتقدير : لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة ، والمعنى : أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق .

ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى ، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي : من يدعو له فدعوته هي الحق ، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها ، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء .

فقال : { والذين يدعون } قال الزمخشري : والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه .

وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم .

وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى .

فالضمير في يدعون عائد على الكفار ، والعائد على الذين محذوف أي : يدعونهم .

ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون ، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر .

وقيل : الذين أي : الكفار الذين يدعون ، ومفعول يدعون محذوف أي : يدعون الأصنام .

والعائد على الذين الواو في يدعون ، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف ، وعلى القول الأول على الذين .

قال ابن عباس : كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله ، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه .

وقال الضحاك : كمن بسط يديه إلى الماء ليصل إليه بلا اغتراف .

وقال أبو عبيدة : أي كالقابض على الماء ليس على شيء ، قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء ، وأنشد سيبويه :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الود مثل القابض الماء في اليد

وقال آخر :

وإني وإياكم وشوقاً إليكم *** كقابض ماء لم تسعه أنامله

وقيل : شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء ، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته ، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه ، كذلك ما يدعو الكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم انتهى .

والكاف في موضع نصب أي : مثل استجابة ، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط ، وهي إضافة المصدر إلى المفعول .

وفاعل المصدر محذوف تقديره : كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه ، فلما حذف أظهر في قوله : إلى الماء ، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه ، فكان يكون التركيب كفيه إليه .

هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه ، وتبعه أبو البقاء .

وقال ابن عطية : ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون ، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال ، فهو لا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى .

وفاعل ليبلغ ضمير الماء ، وليبلغ متعلق بباسط ، وما هو أي : وما الماء ببالغه ، أي : ببالغ الفم .

ويجوز أن يكون هو ضمير الفم ، والهاء في ببالغه للماء أي : وما الفم ببالغ الماء ، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة .

وقرىء : كباسط كفيه بتنوين باسط .

وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي : في حيرة ، أو في اضمحلال ، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد ، فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون .

قال تعالى : { أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا } قال الزمخشري : إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم .

وقال ابن عباس : أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم .