قوله تعالى : { خشعاً أبصارهم } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، وحمزة ، والكسائي : { خاشعاً } على الواحد ، وقرأ الآخرون : { خشعاً } بضم الخاء وتشديد الشين على الجمع . ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والجمع والتذكير والتأنيث ، تقول : مررت برجال حسن أوجههم ، وحسنة أوجههم ، وحسان أوجههم ، قال الشاعر :
ورجال حسن أوجههم*** من إياد بن نزار بن معد
وفي قراءة عبد الله : ( خاشعة أبصارهم ) ، أي : ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب . { يخرجون من الأجداث } من القبور ، { كأنهم جراد منتشر } منبث حيارى ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد ، نظيرها ، { كالفراش المبثوث } ( القارعة-4 ) وأراد أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها ، كالجراد لا جهة لها ، تكون مختلطة بعضها في بعض .
وقوله : { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } حال من الفاعل فى قوله : { يَخْرُجُونَ . . . } : أى : ذليلة أبصارهم بحيث تنظر إلى ما أمامها من أهوال نظرة البائس الذليل ، الذى لا يستطيع أن يحقق نظره فيما ينظر إليه .
قال القرطبى : الخشوع فى البصر : الخضوع والذلة . وأضاف - سبحانه - الخوضع إلى الأبصار ، لأن أثر العز والذل يتبين فى ناظر الإنسان .
قال - تعالى - : { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } وقال - تعالى - : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ . . . } ويقال : خشع واختشع إذا ذل . وخشع ببصره إذا غضه . . .
وقرأ حمزة والكسائى : خاشعا أبصارهم .
وقوله : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أى : يخرجون من القبور ، وعيونهم ذليلة من شدة الهول ، وأجسادهم تملأ الآفاق ، حتى لكأنهم جراد منتشر ، قد سد الجهات . واستتر بعضه ببعض .
فالمقصود بالجملة الكريمة تشبيهم بالجراد فى الكثرة والتموج ، والاكتظاظ والانتشار فى الأقطار وهم يسرعون الخطا نحو أرض المحشر .
القول في تأويل قوله تعالى : خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )
( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) يقول : ذليلة أبصارهم خاشعة ، لا ضرر بها ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) وهي جمع جدث ، وهي القبور ، وإنما وصف جلّ ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم ، والمراد به جميع أجسامهم ، لأن أثر ذلة كل ذليل ، وعزّة كل عزيز ، تتبين في ناظريه دون سائر جسده ، فلذلك خصّ الأبصار بوصفها بالخشوع .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) : أي ذليلة أبصارهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين الكوفيين ( خُشَّعًا ) بضم الخاء وتشديد الشين ، بمعنى خاشع ؛ وقرأه عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة عبد الله ، وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) ، وألحقوه وهو بلفظ الاسم في التوحيد ، إذ كان صفة بحكم فَعَلَ ويَفْعَل في التوحيد إذا تقدّم الأسماء ، كما قال الشاعر :
وشَبابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهمْ *** مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بْنِ مَعَد
فوحد حَسَنا وهو صفة للأوجه ، وهي جمع ؛ وكما قال الآخر :
يَرْمي الفِجاجَ بِها الرُّكبانَ مُعْترِضًا *** أعْناقَ بُزَّلِها مُرْخَى لَها الجُدُلُ
فوحد معترضا ، وهي من صفة الأعناق ، والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بيَّنا .
وقوله ( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ) يقول تعالى ذكره : يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتَشر .
{ خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث } أي يخرجون من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول ، وإفراده وتذكيره لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث ، وقرئ " خاشعة " على الأصل ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم { خشعا } ، وإنما حسن ذلك ولم يحسن مررت برجال قائمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة تشبه الفعل ، وقرئ " خشع أبصارهم " على الابتداء والخبر فتكون الجملة حالا . { كأنهم جراد منتشر } في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة .
وقرأ جمهور القراء : «خشعاً » وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : «خاشعاً » ، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري ، وهو إفراد بمعنى الجمع ، ونظيره قول الشاعر [ الحارث بن أوس الإيادي ] : [ الرمل ]
وشباب حسن أوجههم . . . من إياد بن نزار بن معد{[10761]}
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلاً من المتطوعة قال قبل أن يستشهد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن «خشعاً وخاشعاً » فقال : «خاشعاً » بالألف ، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله : «خاشعة » .
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح ، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر . و : { الأجداث } جمع جدث وهو القبر ، وشبههم بالجراد المنتشر ، وقد شبههم في أخرى ب { الفراش المبثوث }{[10762]} [ القارعة : 4 ] ، وفيهم من كل هذا شبه ، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولاً كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي ، وفي الحديث : إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت : اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.