البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{خُشَّعًا أَبۡصَٰرُهُمۡ يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادٞ مُّنتَشِرٞ} (7)

الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم .

وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد .

وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب .

وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز .

انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر :

بمطرد لذن صحاح كعربه *** وذي رونق عضب يقد الوانسا

ومثال الإفراد قوله :

ورجال حسن أوجههم *** من أياد بن نزار بن معد

وقال آخر :

ترمي الفجاج به الركبان معترضاً *** أعناق بزلها مرخى لها الجدل

وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً .

وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :

سريعاً يهون الصعب عند أولي النهى *** إذا برجاء صادق قابلوه البأسا

فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون .

وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : { فتول عنهم } وقيل : هو مفعول بيدع ،

أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد .

ومن أفرد خاشعاً وذكر ، فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم .

وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . انتهى .

ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة .

وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه . انتهى .

وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم .

والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه .

وقرئ : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك .

{ كأنهم جراد منتشر } : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب .

وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما .

وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب .