قوله تعالى : { إياك نعبد } . ( إيا ) كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر ، ويستعمل مقدماً على الفعل ، فيقال : إياك أعني ، وإياك أسأل ، ولا يستعمل مؤخراً إلا منفصلاً . فيقال : ما عنيت إلا إياك .
قوله : { نعبد } أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع ؛ وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده ، يقال : طريق معبد أي مذلل .
قوله تعالى : { وإياك نستعين } . نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا . فإن قيل : لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة والاستعانة تكون قبل العبادة ؟ فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل . ونحن نحمد الله نجعل التوفيق والاستعانة مع الفعل ، فلا فرق بين التقديم والتأخير ، ويقال : الاستعانة نوع تعبد ، فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها .
وقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي : نخصك وحدك بالعبادة
والاستعانة ، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور ، ونفيه عما عداه . فكأنه يقول : نعبدك ، ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك .
وقدم{[31]} العبادة على الاستعانة ، من باب تقديم العام على الخاص ، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده .
و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة . و { الاستعانة } هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك .
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية ، والنجاة من جميع الشرور ، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما . وإنما تكون العبادة عبادة ، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله . فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر { الاستعانة } بعد { العبادة } مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى . فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر ، واجتناب النواهي .
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
كانت الآيات الثلاث التي تقدمت هذه الآية تقريرًا للحقيقة فى جانب الربوبية وعظمتها وعموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا والآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذي يجدر بنا أن نعبده وأن نسعتين به إنما هو الله الذى تجلت أوصافه ، ووضحت عظمته ، وثبتت هيمنته على هذا الكون .
ولفظ " إيا " ضمير منفصل ، و " الكاف " الملحقة به للخطاب . والعبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية فى الخضوع والخشوع والتعظيم ، والعبادة الصحيحة تتأتى للمسلم بتحقق أمرين : إخلاصها لله ، وموافقتها لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم . قال ابن جرير : " لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة ، وأنها تسمى الطريق المذلل الذى وطئته الأقدام وذللته السابلة معبدًا " .
والاستعانة : طلب المعونة ، من أجل الاقتدار على الشئ والتمكن من فعله . والمعنى : لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين ، فقد توليتنا برعايتك وغمرتنا برحمتك ، فنحن نخصك بطلب الاستعانة على طاعتك وعلى أمورنا كلها ، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك ، فأنت المستحق للعبادة ، وأنت القدير على كل شئ ، والعليم ببواطن الأمور وظواهرها ، لا تخفى عليك طوية ، ولا تتوارى عنك نية . وقدم - سبحانه - المعبود على العبادة فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، لإِفادة قصر العبادة عليه ، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص .
وقال : " نعبد " بنون الجماعة ولم يقل أعبد ، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون فى جماعة المؤمنين ، وللإِشعار بأن المؤمنين المخلصين يكنون فى اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم فى الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم ، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " . وقدمت العبادة على الاستعانة ، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية . وتقديم الوسائل سبب فى تحصيل المطالب ، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات ، بل إن عون الله هو الذى ييسر لهم أداءهم .
ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال ، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإِنسان من الأعمال الصالحة . وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات ، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ قلت : هذا يسمى الالتفات فى علم البيان . وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم . . . وذلك على عادة العرب فى افتنانهم فى الكلام وتصرفهم فيه . لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظًا للإِصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد : وقد تختص مواضعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة فى المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة ، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه . . . " . هذا ، وقد جاءت فى فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة ، ومن ذلك قول بعض العلماء : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالأول تبرؤ من الشرك ، والثانى تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.