قوله عز وجل : { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } . والبقرة هي الأنثى من البقر . يقال : هي مأخوذة من البقر وهو الشق ، سميت به لأنها تشق الأرض للحراثة . والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه ، فلما طال عليه موته قتله ليرثه ، وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم ، ثم أصبح يطلب ثأره ، وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل ، فسألهم موسى فجحدوا ، فاشتبه أمر القتيل على موسى ، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه ، فأمرهم الله بذبح بقرة فقال لهم موسى : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .
قوله تعالى : { قالوا أتتخذنا هزواً } . أي : تستهزئ بنا ، نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ؟ وإنما قالوا ذلك لبعد بين الأمرين في الظاهر ، ولم يدروا ما الحكمة فيه ، قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل ، وبترك الهمزة حفص .
قوله تعالى : { أعوذ بالله } . أمتنع بالله .
قوله تعالى : { أن أكون من الجاهلين } . أي من المستهزئين بالمؤمنين وقيل : من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل ، فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل استوصفوها ، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة ، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهم إني استودعتك هذه لابني حتى تكبر ، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عواناً ، وكانت تهرب من كل من رآها ، فلما كبر الابن وكان باراً بوالدته ، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث ، يصلي ثلثاً ، وينام ثلثاً ، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً ، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره ، فيأتي به إلى السوق ، فيبيعه بما شاء الله ، ثم يتصدق بثلثه ، ويأكل بثلثه ، ويعطي والدته ثلثه ، فقالت له أمه يوماً : إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا ، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك ، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أنها شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها ، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب . فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه ، فقبض على عنقها يقودها ، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت : أيها الفتى البار بوالدتك اركبني ، فإن ذلك أهون عليك ، فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها ، فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبداً ، انطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك ، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له : إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل ، فانطلق فبع هذه البقرة ، قال : بكم أبيعها ؟ قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي ، وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير ، فانطلق بها إلى السوق ، فبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بأمه ، وكان الله به خبيراً فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة ؟ قال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي ، فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني ، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمك ؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها قال الملك : فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها ، فأبى الفتى ، فرجع إلى أمه فأخبرها ، فقالت : إن الذي يأتيك ملك بصورة آدمي ليختبرك فإذا آتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل . فقال له الملك : اذهب إلى أمك وقل لها : أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير ، فأمسكها ، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها ، فكافأه الله على بره بوالدته فضلاً منه ورحمة .
أي : واذكروا ما جرى لكم مع موسى ، حين قتلتم قتيلا ، وادارأتم فيه ، أي : تدافعتم واختلفتم في قاتله ، حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير ، فقال لكم موسى في تبيين القاتل : اذبحوا بقرة ، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره ، وعدم الاعتراض عليه ، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض ، فقالوا : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } فقال نبي الله : { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه ، وهو الذي يستهزئ بالناس ، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل ، استهزاءه بمن هو آدمي مثله ، وإن كان قد فضل عليه ، فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه ، والرحمة لعباده .
ثم ساق القرآن بعد ذلك قصة من قصص بني إسرائيل تدل على تنطعهم في الدين ، ومحاولتهم تضييق ما وسعه الله عليهم ، وتهربهم من الانصياع لكلمة الحق ، وتشككهم في صدق أنبيائهم ، وتعنتهم في السؤال . وهذه القصة هي قصة أمرهم على لسان نبيهم موسى - عليه السلام - بذبح بقرة . استمع إلى القرآن الكريم ، وهو يحكي هذه القصة بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً . . . }
روى المفسرون أنه كان في بني إسرائيل رجل غني ، وله ابن عم فقير لا وارث له سواه ، فلما طال عليه موته قتله ليرثه ، وحمله إلى قرية أخرى فالقاه فيها ، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى نبيهم موسى - عليه السلام - يدعى عليهم القتل ، فسألهم موسى - عليه السلام - فجحدوا فسألوه أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي ، فدعا موسى ربه فأوحى الله - تعالى - إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً . . . } .
وقد ساق القرآن الكريم هذه القصة بأسلوبه البديع الذي يأخذ بمجامع القلوب ، ويحرك النفوس إلى النظر والاعتبار ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل - لتعتبروا وتتعظوا وقت أن حدث في أسلافكم قتيل ولم يعرف الجاني . فطلب بعض أهله وغيرهم ممن يهمه الأمر من موسى - عليه السلام - أن يدعو الله - تعالى - ليكشف لهم عن القاتل الحقيقي ، فقال لهم { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } فدهشوا وقالوا بسفاهة وحماقة { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } أي أتجعلنا موضع سخريتك ؟ { قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } الذين يخبرون عنه بما لم يأمر به .
والذي عليه جمهور المفسرين أمرهم بذبح البقرة كان بعد تنازعهم في شأن القاتل من هو ؟ وذلك ليعرف القاتل الحقيقي إذا ضرب القتيل ببعضها ، كما سيأتي في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
وقد أمرهم الله - تعالى - بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات ؛ لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة ، لا يصلح أن يكون معبوداً من دون الله ، وإنما يصلح للحرث والسقى والعمل والذبح .
وقولهم { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } يدل على سفههم وسوء ظنهم بنبيهم وعدم توقيرهم له وجهلهم بعظمة الله - تعالى - وما يجب أن يقابل به أمره من الانقياد والامتثال ، لأنهم لو كانوا عقلاء لامتثلوا أمر نبيهم ، وانتظروا النتيجة بعد ذلك . ولكنهم قوم لا يعقلون .
ولما كان قولهم هذا القول يدل على اعتقادهم بأن موسى - عليه السلام - قد أخبر عن الله بما لم يؤمر به ، أجابهم موسى بقوله : { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } : أي ألتجئ إلى الله وأبرأ إليه من أن أكون من السفهاء الذين يروون عنه الكذاب والباطل ، وفي هذا الجواب تبرؤ وتنزهه عن الهزء ، وهو المزاح الذي يخالطه احتقاره واستخفاف بالممازح معه - لأنه لا يليق بعقلاء الناس فضلا عن رسل الله - عليهم السلام - كما أن فيه - أيضاً - رداً لهم - عن طريق التعريض بهم - إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق ، حيث بين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بمن يجهل عظمة الله - تعالى- .
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين عند تفسيره للآية الكريمة :
( وقد نبهت الآية الكريمة ، على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير ، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب ، ويقذف به في عذاب الحريق ، ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل ، وقالوا : إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى يتدبر وخشوع ، وليعمل به بتقبل وخضوع ) .