قوله تعالى : { واتبعوا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { ما تتلوا الشياطين } . أي : ما تلت ، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي ، والماضي موضع المستقبل ، وقيل : ما كنت تتلو أي تقرأ ، قال ابن عباس رضي الله عنه : تتبع وتعمل به ، وقال عطاء تحدث وتكلم به .
قوله تعالى : { على ملك سليمان } . أي : ملكه وعهده . وقصة الآية : أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك ، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس : إنما ملكهم سليمان بهذا فتعلموها فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان ، وأما السفلة ، فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعلمه ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، وفشت الملامة على سليمان ، فلم يزل هذا حالهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان ، هذا قول الكلبي . وقال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره ، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها ، فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، وجمع تلك الكتب ، وجعلها في صندوق ، ودفنه تحت كرسيه وقال : لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب ، وخلف بعدهم من خلف ، تمثل الشيطان على صورة إنسان ، فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي ، وذهب معهم المكان وقام ناحية فقالوا : ادن قال : لا ولكن هاهنا فإن لم تجدوه فاقتلوني ، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين . يدنو من الكرسي إلا احترق ، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب ، فقال الشيطان : إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا ، ثم طار الشيطان عنهم ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً ، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك ، وأنزل في عذر سليمان :
قوله تعالى : { وما كفر سليمان } . بالسحر ، وقيل : لم يكن سليمان كافراً بالسحر ويعمل به .
قوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا } . قرأ ابن عباس رضي الله عنه ، والكسائي وحمزة ، ولكن خفيفة النون ، والشياطين رفع ، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون ، والشياطين نصب وكذلك { ولكن الله ولكن الله رمى } ومعنى لكن : نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل . يعلمون الناس قيل : معنى السحر العلم ، والحذق بالشيء قال الله تعالى :{ وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك } أي العالم ، والصحيح : أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة ، وعليه أكثر الأمم ، ولكن العمل به كفر ، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل ، حتى أوجب القصاص على من قتل به ، فهو من عمل الشيطان ، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه ، فإذا تلقاه منه بتعليمه إياه استعمله في غيره ، وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب ، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس ، وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه ، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان .
قوله تعالى : { وما أنزل على الملكين ببابل } . أي ويعملون الذي أنزل على الملكين ، أي إلهاماً وعلماً ، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم ، وقيل : واتبعوا ما أنزل على الملكين ، وقرأ ابن عباس و الحسن الملكين بكسر اللام ، وقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، وقال الحسن : علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر . وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها ، قال ابن مسعود : بابل أرض الكوفة ، وقيل جبل نهاوند ، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح ، فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة ؟ قيل : له تأويلان : أحدهما ، أنهما لا يتعمدان التعليم ، لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه ، والتعليم بمعنى الإعلام ، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما . والتأويل الثاني : وهو الأصح : أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما فيكفر به ، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان ، ويزداد المعلمان بالتعليم عذاباًن ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، فله الأمر والحكم .
قوله تعالى : { هاروت وماروت } . اسمان سريانيان ، وهما في محل الخفض على تفسير الملكين ، إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما ، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون : أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام ، فعيروهم وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك . فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك ، قال الله تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم ، وقال الكلبي : قال الله تعالى لهم : اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت ، غير اسمهما لما قارفا الذنب وعزائيل ، فركب الله فيهم الشهوة ، وأهبطهم إلى الأرض ، وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق ، والزنا وشرب الخمر ، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء ، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه ، ولم يزل بعد ذلك مطأطئاً رأسه حياء من الله تعالى . وأما الآخران : فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا به إلى السماء ، قال قتادة : فما مر عليهما شهر حتى افتتنا . قالوا جميعاً وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها ، فأبت وانصرفوا ، ثم عادت في اليوم الثاني ، ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلا أن تعبدا ما أعبد ، وتصليا لهذا الصنم ، وتقتلا النفس ، وتشربا الخمر فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها ، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر ، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها ، فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير الله عظيم ، وقتل النفس عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة ، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه ، قال الربيع بن أنس : وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكباً وقال بعضهم : جاءتهم امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجا فقال أحدهما للآخر : هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي قال : نعم فقال : وهل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها عن نفسها ، فقالت : لا إلا أن تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها ، ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها ، فقالت : لا إلا أن لنا صنماً نعبده ، إن أنتما صليتما معي عنده فعلت ، فقال : أحدهما لصاحبه مثل القول الأول وقال صاحبه مثله ، فصليا معها له فمسخت شهاباً .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والكلبي والسدي : إنها قالت لهما : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا : باسم الله الأكبر ، قالت : فما أنتم بمدركي حتى تعلمانيه ، فقال أحدهما لصاحبه : علمها فقال : إني أخاف الله ، قال الآخر : فأين رحمة الله تعالى ، فعلماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً ، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها ، وأنكر الآخرون هذا وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال : { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها ، فلما بغت مسخها الله تعالى شهاباً ، قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب ، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما ، فقصدا إدريس النبي عليه السلام ، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له : إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض ، فاستشفع لنا ، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان . واختلفوا في كيفية عذابهما . فقال عبد الله بن مسعود : هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة ، وقال عطاء بن أبي رباح : رؤوسهما مصوبة تحت أجنحتهما ، وقال قتادة : كبلا من أقداهما إلى أصول أفخاذهما ، وقال مجاهد : جعلا في جب ملئ ناراً ، وقال عمر بن سعد : منكوسان يضربان بسياط الحديد . وروي أن رجلاً قصد هاروت وماروت لتعلم السحر . فوجدهما معلقين بأرجلهما ، مزرقة أعينهما ، مسودة جلودهما ، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع ، وهما يعذبان بالعطش ، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال : لا إله الله ، فلما سمعا كلامه قالا له : من أنت ؟ قال : رجل من الناس ، قالا : من أي أمة ؟ قال : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا : أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال : نعم . قالا : الحمد لله وأظهرا الاستبشار فقال الرجل : وبم استبشاركما قالا : إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا .
قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد } . أي أحداً " ومن " صلة .
قوله تعالى : { حتى } . ينصحاه أولاً .
قوله تعالى : { يقولا إنما نحن فتنة } . ابتلاء ومحنة .
قوله تعالى : { فلا تكفر } . أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر ، وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان ، من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار ، ليتميز الجيد من الرديء ، وإنما وحد الفتنة وهما اثنان ، لأن الفتنة مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ، وقيل : إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات . قال عطاء والسدي : فإن أبى إلا التعلم قالا له : " ائت هذا الرماد وأقبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة ، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى " ، قال مجاهد : إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة .
قوله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } . وهو أن يؤخذ كل واحد عن صاحبه ، ويبغض كل واحد إلى صاحبه .
قوله تعالى : { وما هم } . قيل أي : السحرة وقيل : الشياطين .
قوله تعالى : { بضارين به } . أي بالسحر .
قوله تعالى : { من أحد } . أي أحداً .
قوله تعالى : { إلا بإذن الله } . أي : بعلمه وتكوينه ، فالساحر يسحر والله يكون . قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته .
قوله تعالى : { ويتعلمون ما يضرهم } . يعني : أن السحر يضرهم .
قوله تعالى : { ولا ينفعهم ولقد علموا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { لمن اشتراه } . أي اختار السحر .
قوله تعالى : { ما له في الآخرة } . أي في الجنة .
قوله تعالى : { من خلاق } . من نصيب .
قوله تعالى : { ولبئس ما شروا به } . باعوا به .
قوله تعالى : { أنفسهم } . حظ أنفسهم ، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق .
قوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } . فإن قيل : أليس قد قال ولقد علموا لمن اشتراه ؟ فما معنى قوله تعالى :{ لو كانوا يعلمون } ؟ بعدما أخبر أنهم علموا ؟ قيل : أراد بقوله ولقد علموا يعني الشياطين ، وقوله : لو كانوا يعلمون يعني اليهود ، وقيل : كلاهما في اليهود ولكنهم لما لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا .
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه ، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع ، ابتلي بالاشتغال بما يضره ، فمن ترك عبادة الرحمن ، ابتلي بعبادة الأوثان ، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه ، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه ، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ، ومن ترك الذل لربه ، ابتلي بالذل للعبيد ، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل .
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر ، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم .
وهم كذبة في ذلك ، فلم يستعمله سليمان ، بل نزهه الصادق في قيله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي : بتعلم السحر ، فلم يتعلمه ، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك .
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم ، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر .
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه ، و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي : لا تتعلم السحر فإنه كفر ، فينهيانه عن السحر ، ويخبرانه عن مرتبته ، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة .
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه .
ثم ذكر مفاسد السحر فقال : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما ، لأن الله قال في حقهما : { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة ، وأنه يضر بإذن الله ، أي : بإرادة الله ، والإذن نوعان : إذن قدري ، وهو المتعلق بمشيئة الله ، كما في هذه الآية ، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير ، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير ، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد ، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة ، فأخرجوها عن قدرة الله ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين .
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي ، كما قال تعالى في الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة ، فليس له داع أصلا ، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة ، أو شرها أكبر من خيرها .
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها .
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي : اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي : رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة .
{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي : نصيب ، بل هو موجب للعقوبة ، فلم يكن فعلهم إياه جهلا ، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة .
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه .