معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

قوله تعالى : { وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض } يقول : أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم ، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين ، وقال الشعبي : هو صلح الحديبية ، { وقاتل } يقول : لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة مع من أنفق وقاتل بعده ، { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فإنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله . وقال عبد الله بن مسعود : أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أنبأنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أنبأنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال : " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ، فنزل عليه جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح ، قال : فإن الله عز وجل يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي ؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض " . { وكلاً وعد الله الحسنى } أي كلا الفريقين وعدهم الله الجنة . قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ، فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها . وقرأ ابن عامر : وكل بالرفع . { والله بما تعملون خبير* }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : وما لكم أيها الناس لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله ، لأن له ميراث السموات والأرض ، وإنما حثهم جلّ ثناؤه بذلك على حظهم ، فقال لهم : أنفقوا أموالكم في سبيل الله ، ليكون ذلكم لكم ذخرا عند الله من قبل أن تموتوا ، فلا تقدروا على ذلك ، وتصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض .

وقوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكة وهاجر . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ قال : آمن فأنفق ، يقول : من هاجر ليس كمن لم يهاجر .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ يقول : من آمن .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : يقول غير ذلك .

وقال آخرون : عني بالفتح فتح مكة ، وبالنفقة : النفقة في جهاد المشركين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى قال : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الاَخر ، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح «فتح مكة » أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ قال : فتح مكة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتحِ قال : فتح مكة .

وقال آخرون : عني بالفتح في هذا الموضع : صلح الحديبية . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية ، يقول تعالى ذكره : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْح وَقاتَلَ . . . الآية .

حدثني حُمَيد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، في هذه الآية ، قوله : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ منْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَل قال : فتح الحديبية ، قال : فصل ما بين العمرتين فتح الحديبية .

حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية . وأُنزلت لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلَ الفَتْحِ . . . إلى وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فقالوا : يا رسول الله فتحٌ هو ؟ قال : «نَعَمْ عَظِيمٌ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية ، ثم تلا هنا الآية لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ . . . الآية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية : «يُوشِكُ أنْ يأتِي قَوْمٌ تَحَقِرُونَ أعمالَكُمْ مَعَ أعمالِهِمْ » ، قلنا : من هم يا رسول الله ، أقريش هم ؟ قال : «لا ، وَلَكَنْ أهْلُ اليَمَنِ أرَقّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا » ، فقلنا : هم خير منا يا رسول الله ، فقال : «لَوْ كانَ لأَحَدَهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَب فأنْفَقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصِيفَهُ ، ألا إنّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنا وَبَينَ النّاسِ ، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ . . . الآية ، إلى قوله : وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » .

حدثني ابن البَرْقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبي سعيد التمار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُوشِكُ أنْ يأَتِي قَوْمٌ تَحَقِرُونَ أعمالَكُمْ مع أعمالَهُمْ » ، فقلنا : من هم يا رسولَ الله ، أقريش ؟ قال : «لا ، هُمْ أرَقّ أفْئَدَةً وألْيَنُ قُلُوبا » ، وأشار بيده إلى اليمن ، فقال : «هُمْ أهْلُ اليَمَنِ ، ألا إنّ الإيمانَ يمانِ ، والْحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ » فقلنا : يا رسول الله هم خير منا ؟ قال : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَده لَوْ كان لأحَدِهِمْ جَبَلُ ذَهَب يُنْفِقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصِيفَهُ » ، ثم جمع أصابعه ، ومدّ خنصره وقال : «إلا إنّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنا وَبَيَنَ النّاسِ » لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَل أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُدَيبية للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي رويناه عن أبي سعيد الخُدريّ عنه ، وقاتل المشركين بمن أنفق بعد ذلك ، وقاتل وترك ذكر من أنفق بعد ذلك ، وقاتل استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية ، وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك ، وقاتلوا .

وقوله : وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى يقول تعالى ذكره : وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله ، وقتالهم أعداءه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا وآمَنُوا وكُلاّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى قال : الجنة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى قال : الجنة .

وقوله : وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره : والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله ، وقتال أعدائه ، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون ، خبير لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (10)

وما لكم ألا تنفقوا وأي شيء لكم في ألا تنفقوا في سبيل الله فيما يكون قربة إليه ولله ميراث السموات والأرض يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى وهو الثواب كان أولى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين وتحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه و الفتح فتح مكة إذ عز الإسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإنفاق من الذين أنفقوا من بعد أي من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى أي وعد الله كلا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة وقرأ ابن عامر وكل بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه والله بما تعملون خبير عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك .