ثم وصف المنافقين فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء } ، يعني : يتخذون اليهود أولياء وأنصاراً أو بطانة .
قوله تعالى : { من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة } ، أي : المعونة والظهر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : أيطلبون عندهم القوة ؟
قوله تعالى : { فإن العزة } أي : الغلبة والقوة والقدرة . { لله جميعاً } .
ثم كشف - سبحانه - عن جانب من طبيعتهم المنكوسة فقال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } .
أى : أنذر هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم ، الذين من صفاتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم تاركين ولاية المؤمنين ونصرتهم . فهم سلم على الكافرين وحرب على المؤمنين .
والمراد بالكافرين هنا : اليهود - على أرجح الأقوال - فقد حكى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لن يتم فتولوا اليهود ، ولأن غالب سكان المدينة - من غير المسلمين - كان من اليهود .
وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من فاعل يتخذون . أى : يتخذون الكفار أنصارا لهم حالة كونهم متجاوزين ولاية المؤمنين ونصرتهم .
والاستفهام فى قوله : { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } للإِنكار والتعجب من شأنهم ، والتهكم من سوء تصورهم .
وقوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } رد على تصوراتهم الباطلة ، ومداركهم الفاسدة ، وتثبيت للمؤمنين حتى يزدادوا قوة على قوتهم .
أى : أن هؤلاء المنافقين قد تركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فما الذى دفعهم إلى هذا الانتكاس ؟ أيطلبون بلهفة ورغبة العزة والمنعة من عند الكافرين ؟ إذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا ، فإن العزة والقوة والمنعة والنصرة له وحده . ومن اعتز بغير الله هان وذل .
قال ابن كثير : والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جانب الله - تعالى - والإِقبال على عبوديته ، والانتظام فى جملة عباده المؤمنين ، الذين لهم النصرة فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذى رواه الإِمام أحمد عن أبى ريحانة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم فى النار " .
وقال الإِمام الرازى : وأصل العزة فى اللغة الشدة . ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة : عزاز . ويقال : قد استعز المرض على المريض إذا اشتد ظهره به . وشاة عزوز التى يشتد حبلها ويصعب . والعزة : القوة منقولة منا لشدة لتقارب معنييهما . والعزيز القوى المنيع بخلاف الذليل .
ثم قال : إذا عرفت هذا فنقول : إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود . ثم إنه - تعالى - أبطل عليهم هذا الرأى بقوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } .
فإن قيل : هذا كالمناقض لقوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } قلنا القدرة الكاملة لله . وكل من سواه فبالقداره صار قادرا . وبإعزازه صار عزيزا فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله - تعالى - فكأنه الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله .
قالوا : وقد دلت الآية الكريمة على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهى عن موالاة الكافرين . قال - تعالى - { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }
ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين ، وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة ، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك ، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله يؤتيها من يشاء ، وقد وعد بها المؤمنين ، وجعل العاقبة للمتقين ، و { العزة } أصلها : الشدة والقوة ، ومنه الأرض العزاز أي : الصلبة ، ومنه { عزني } [ ص : 23 ] أي : غلبني بشدته ، واستعز المرض إذا قوي ، إلى غير هذا من تصاريف اللفظة .
المراد بالكافرين مشركو مكة ، أو أحْبار اليهود ، لأنّه لم يْبق بالمدينة مشركون صُرحاءَ في وقت نزول هذه السورة ، فليس إلاّ منافقون ويهود . وجملة { أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله } استئنافٌ بياني باعتبار المعطوف وهو { فإنّ العزّة لله } وقوله : { أيَبْتَغَون } هو منشأ الاستئناف ، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة ، لأنّ معظم المنافقين من اليهود ، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين ، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز ، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ . والاستفهامُ إنكار وتوبيخ ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله : { فإنّ العزّة لله جميعاً } أي لا عزّة إلاّ به ، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل . كما قيل : من اعتزّ بغير الله هَان . وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل : كالمستغيث من الرمضاء بالنار . وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {الذين يتخذون الكافرين} من اليهود {أولياء من دون المؤمنين}، وذلك أن المنافقين قالوا: لا يتم أمر محمد، فتابعوا اليهود وتولوهم، فذلك قوله سبحانه: {أيبتغون عندهم العزة}، يعني المنعة، وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ليتعززوا بذلك، فقال سبحانه: {أيبتغون عندهم العزة}: أيبتغي المنافقون عند اليهود المنعة، {فإن العزة لله جميعا}: جميع من يتعزز، فإنما هو بإذن الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الّذِينَ يَتّخذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء: يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العزّةَ}: أيطلبون عندهم المنعة والقوّة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي.
{فإنّ العِزّةِ لِلّهِ جَميعا}: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزّة عندهم، هم الأذلاء الأقلاّء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله، الذي له العزّة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء فيعزّهم ويمنعهم؟. وأصل العزّة: الشدّة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز، وقيل: قد اسْتِعزّ على المريض: إذا اشتدّ مرضه وكاد يُشْفِي، ويقال: تعزّز اللحم: إذا اشتدّ ومنه قيل: عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا، بمعنى: اشتدّ عليّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله تعالى: {يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} قولا وفعلا. وأما القول فكقولهم: {إنا معكم إنما نحن مستهزءون} (البقرة: 14) وغيره من الآيات. وأما الفعل (فقد كانوا) يمنعون المؤمنين أن يغزوهم كقوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن} (النساء: 72) وكقوله تعالى: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} (آل عمران: 173) وكقوله تعالى: {فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} (التوبة: 46) كانوا يمنعون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمين عن أن يغزوهم، ويقاتلوهم. فهم وإن كانوا يرون من أنفسهم الموافقة للمؤمنين في الظاهر، فإنهم كانوا في الحقيقة معهم...
ثم يحتمل قوله تعالى {أيبتغون عندهم العزة} وجهين: تحتمل {العزة} المصنعة والنصرة، وكانوا يطلبون بذلك النصرة والقدرة عند الكافرين. وتحتمل {العزة} ليتعززوا بذلك...
وقوله تعالى: {فإن العزة لله جميعا} أي القدرة والنصرة، كلها لله، من عنده تكون، وبه يتعزز المرء في الدنيا والآخرة، ليس من عند أولئك الذين يطلبون منهم...
وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار... فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصاراً والاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم...
وقوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فإنَّ العِزَّةَ للّهِ جَمِيعاً} تأكيدٌ للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبارٌ بأن العزة لله دونهم؛ وذلك منصرف على وجوه، أحدها: امتناع إطلاق العزة إلاَّ لله عز وجل؛ لأنه لا يُعْتَدُّ بعزّة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته. والآخر: أنه المقوِّي لمن له القوة من جميع خلقه، فجميع العزة له، إذ كان عزيزاً لنفسه مُعِزّاً لكل من نُسب إليه شيء من العزة. والآخر: أن الكفار أذلاّء في حكم الله فانْتَفَتْ عنهم صفة العزة وكانت لله ولمن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون، فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمَنَعَةِ فغير مستحقين لإطلاق اسم العزة لهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من اعتصم بمخلوقٍ فقد التجأ إلى غير مُجير، واستند إلى غير كهفٍ، وسقط في مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها. أيبتغون العِزَّ عند الذي أصابه ذلّ التكوين؟! متى يكون له عزٌّ على التحقيق؟ ومَنْ لا عزَّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدَّى إلى غيره؟...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
فإن قال قائل: قد نرى في بعض الأحوال الغلبة للكفار؛ فما معنى قوله: (فإن العزة لله جميعا)؟ قيل: معناه: أن المقوي هو الله-تعالى- في الأحوال كلها. وقيل: معناه: الغلبة بالحجة لله جميعا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين، وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين،...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: {الذين يتخذون الكافرين} أي المجاهرين بالكفر {أولياء} أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله: {من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله: {أيبتغون} أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً {عندهم} أي الكافرين {العزة} فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم وصف هؤلاء المبشرين بقوله: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} أي الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وتاركيها إلى ولايتهم وممالأتهم عليهم لاعتقادهم أن الدولة ستكون لهم فيجعلون لهم يدا عندهم {أيبتغون عندهم العزة} استفهام تقريع وتوبيخ. إن كانوا يبتغون عندهم العزة وهي المنعة والغلبة ورفعة القدر {فإن العزة لله جميعا} فهو يؤتيها من يشاء فكان عليهم أن يطلبوها منه بصدق الإيمان والسير على سنته تعالى واتباع هداية وحيه الذي يرشدهم إلى طرقها، ويبين أسبابها، وقد آتاها الله نبيه والمؤمنين باهتدائهم بكتابه، وسيرهم على سننه، ولما أعرض المسلمون عن هذه الهداية التي اعتز بها سلفهم ذلوا وساءت حالهم وصار فيهم منافقون يوالون الكفار دونهم يبتغون عندهم العزة والشرف وما هم لهما بمدركين، فعسى الله أن يرفق المسلمين إلى الرجوع إلى تلك الهداية فيعودوا إلى حظيرة {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والكافرون المذكورون هنا هم -على الأرجح- اليهود؛ الذين كان المنافقون يأوون إليهم؛ ويتخنسون عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
والله -جل جلاله- يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله -عز وجل- بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى؛ وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده؛ فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين!
ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها.. العبودية لله.. فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى؛ وأشخاص شتى؛ واعتبارات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار..
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال.. ولمن شاء أن يختار..
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين.. وإلا فإن الله غني عن العالمين!
ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر؛ واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية..
روى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عباس. عن حميد الكندي عن عبادة ابن نسي، عن إبى ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا، فهو عاشرهم في النار..
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ. في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالكافرين مشركو مكة، أو أحْبار اليهود، لأنّه لم يْبق بالمدينة مشركون صُرحاءَ في وقت نزول هذه السورة، فليس إلاّ منافقون ويهود. وجملة {أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله} استئنافٌ بياني باعتبار المعطوف وهو {فإنّ العزّة لله} وقوله: {أيَبْتَغَون} هو منشأ الاستئناف، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة، لأنّ معظم المنافقين من اليهود، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ. والاستفهامُ إنكار وتوبيخ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله: {فإنّ العزّة لله جميعاً} أي لا عزّة إلاّ به، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل. كما قيل: من اعتزّ بغير الله هَان. وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل: كالمستغيث من الرمضاء بالنار. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}؛
والولاء قسمان: ولاء نصرة وانتماء، وهذا منهي عنه من المؤمنين إلا بالضرورة، وولاء مودة ومحبة وهذا غير منهي عنه بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا كانوا قد حاربوا الله ورسوله وخرجوا محاربين له منابذين.
وقد استنكر سبحانه وتعالى أن يكون لهؤلاء المنافقين ما يبرر هذا الولاء، ولذا قال سبحانه وتعالى: {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا} إن هؤلاء المنافقين تضل أفهامهم، ويطمس على مداركهم ويفسد تفكيرهم لأنهم مردوا على الابتعاد عن الحقائق والحكم على الزمان بحالهم الوقتية، ولا تنفذ عقولهم إلى ما وراء ظاهر الأمور فهم يطلبون العزة من غيره.
والاستفهام هنا لإنكار الواقع، أي للتوبيخ على أمر وقع منهم وهو أنهم يطلبون العزة ويريدونها إرادة شديدة راغبين فيها من الكافرين الذين لا يملكون أن يعزوا غيرهم لأنهم يعاندون الله تعالى، ولا عزة لمن يجحد ويعاند الله العزيز الحكيم. وقد أكد الله تعالى ذلك المعنى بقوله تعالت كلماته:
{فإن العزة لله جميعا} أي أنه لا عزة إلا ما يكون من عند الله تعالى، ولمن يطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، وقد أكد الله تعالى أن العزة له وحده بعدة مؤكدات منها التوكيد ب "إن "ومنها ذكر لفظ الجلالة ومنها ذكر بكلمة {جميعا}.
إن العزة لله وحده، فليس بعزيز من يعانده، إذ ليست العزة غطرسة وكبرياء ولكنها معنى نفسي يسكن في القلب فيحس باستعلاء على مظاهر الحياة، واستجابة لمعانيها وأولئك الذين يريدون العزة من غيرهم يبنونها على أوهام، وعلى مطامع مادية، وليست هذه العزة إن كان استعلاء يبنى على أمر مادي، أو جاه خارجي، أو مطمع دنيوي إنما هو وهم سرعان ما يزول وتذل النفوس التي لا تتمسك بالحق، فالحق فيه العزة وهو الذي يكون من عند الله، فلا عزة إلا من الله، والذل حيث لا يريد وجه الله.
وإن أولئك المنافقين لفرط كفرهم وإيغالهم في البعد عن الله يشاركون الذين يثيرون السخرية عند تلاوة القرآن ولذا قال سبحانه: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا}.
...عندما تطلبون العزة [أيها المنافقون] فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساو لهم من الأغيار فالمنافقون بشر والكفار بشر وبما أن كل البشر أغيار فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غدا، لأن أسباب العزة هي غنى أو قوة أو جاه وكل هذه من الأغيار. فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم وهو من الأغيار مثلكم ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه صفة أساسية في الحد الفاصل بين شخصية المؤمن وبين شخصية المنافق، لأن قضية الإيمان ليست مجرد فكرة تطوف في الخيال، كما تطوف كثير من الأفكار التجريدية التي لا تمس الحياة الشخصية للإنسان في قليل أو كثير، بل هي فكرة للفكر وللشعور وللموقف، حيث تحدد له علاقاته بالناس وبالأشياء وبالحياة، من خلال الخط الذي ترسمه، والجو الذي تخلقه، والأهداف التي تحددها... فإذا كنت مؤمناً، فإن معنى ذلك، هو أن تحول الإيمان إلى حركة للحياة في نفسك وفيمن حولك وما حولك، فتخضع كل خطواتك وأعمالك وعلاقاتك لما يتصل به من قريب أو من بعيد، فتوالي من يوالي الله، وتعادي من يعادي الله، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للحركة إلى الأمام، بينما يمثل العكس خطّاً تراجعياً إلى الوراء؛ فإذا واليت أعداء الله وعاديت أولياء الله، كنت سائراً في النهج الذي يضعف من موقف الإيمان، لأن مثل هذه العلاقة الشعورية والعملية تحقق للكفر قوة من خلال قوتك وتُفقد الإيمان بعض قوته؛ وذلك أمر لا يلتقي بالإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، الذي يفرض عليك أن تتحرك من خلال مزاج الإيمان، من خلال ما يفرضه من أجواء ومشاعر ومواقف، ولا تتحرك من خلال مزاجك الخاص الذي يخضع للنوازع الشخصية البعيدة عن حركة الرسالة في النفس...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ هذه الآية في الحقيقة تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إِنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإِسلام، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإِلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإِسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إِليهم والاعتماد عليهم، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقاً، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي...