قوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما } ، يعني : شقاقاً بين الزوجين ، والخوف بمعنى اليقين ، وقيل : هو بمعنى الظن ، يعني : إن ظننتم شقاق بينهما ، وجملته : أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق ، واشتبه حالهما ، فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ، ولا المرأة ، تأدية الحق ، ولا الفدية ، وخرجا إلى ما لا يحل قولاً وفعلاً ، بعث الإمام حكماً من أهله إليه ، وحكماً من أهلها إليها ، رجلين حرين عدلين ، ليستطلع كل واحد من الحكمين رأي من بعث إليه إن كان رغبته في الصلح أو في الفرقة ، ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليها رأيهما من الصلاح ، فذلك .
قوله تعالى : { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً } يعني : الحكمين .
قوله تعالى : { يوفق الله بينهما } ، يعني : بين الزوجين ، وقيل : بين الحكمين .
قوله تعالى : { إن الله كان عليماً خبيراً } .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثففي عن أيوب عن ابن شيرين عن عبيدة أنه قال في هذه الآية { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } ، قال : جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل أحد منهما قوم من الناس فأمرهم علي رضي الله عنه فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي ، فقال الرجل : أما فرقة فلا ، فقال علي رضي الله عنه : كذبت والله ، حتى تقر بمثل الذي أقرت به . واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين ، وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما ، وليس لحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ، ولا حكم المرأة أن يختلع على مالها إلا بإذنها ، وهو قول أصحاب الرأي لأن علياً رضي الله عنه ، حين قال الرجل : أما الفرقة فلا ؟ قال : كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به . فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاه . والقول الثاني : يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ، ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ، ولحكم المرأة أن يختلع دون رضاها ، إذا رأيا الصلاح ، كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما ، وبه قال مالك ، ومن قال بهذا قال : ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تقر : أن رضاه شرط ، بل معناه : أن المرأة رضيت بما في كتاب الله فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، يعني : الفرقة ليست في الكتاب الله ، فقال علي : كذبت ، حيث أنكرت أن الفرقة في كتاب الله ، بل هي في كتاب الله ، فإن قوله تعالى : { يوفق الله بينهما } يشتمل على الفراق وغيره ، لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر ، وذلك تارة يكون بالفراق ، وتارةً بصلاح حالهما في الوصلة .
ثم بين - سبحانه - ما يجب عمله إذا ما نشب خلاف بين الزوجين فقال - تعالى - : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .
والمراد بالخوف هنا العلم . والخطاب لولاة الأمور وصلحاء الأمة . وقيل لأهل الزوجين .
والمراد بالشقاق ما يحصل بين الزوجين من خلاف ومعاداة . وسمى الخلاف شقاقاً لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه ، أو لأن كل واحد من الزوجين صار فى شق وجانب غير الذى فيه صاحبه .
وقوله { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله شقاقا بينهما . فأضيف الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى لمفعول فيه إتساعا . كقوله - تعالى - { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } وأصله بل مكر فى الليل والنهار .
وإما على إجرائه مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين . كما فى قولك : نهارك صائم .
والمعنى : وإن علمتم أيها المؤمنون أن هناك خلافا بين الزوجين قد يتسبب عنه النفور الشديد ، وانقطاع حبال الحياة الزوجية بينهما ، ففى هذه الحالة عليكم أن تبعثوا { حَكَماً } أى رجلا صالحا عاقلا أهلا للإِصلاح ومنع الظالم من الظلم { مِّنْ أَهْلِهِ } أى من أهل الزوج وأقاربه { وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } أى من أقارب الزوجة بحيث يكون على صفة الأول : لأن الأقارب فى الغالب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإِصلاح ، وتسكن إليهم النفس أكثر من غيرهم .
وعلى الحكمين فى هذه الحالة أن يستكشفا حقيقة الخلاف ، وان يعرفا هل الإِصلاح بين الزوجين ممكن أو أن الفراق خير لهما ؟ .
وظاهر الأمر فى قوله { فابعثوا } أنه للوجوب ، لأنه من باب رفع المظالم ورفع المظالم من الأمور الواجبة على الحكام .
وظاهر وصف الحكمين بان يكون أحدهما من أهل الزوج والثانى من أهل الزوجة . أن ذلك شرط على سبيل الوجوب ، إلا أن كثيرا من العلماء حمله على الاستحباب ، وقالا : إذا بعث القاضى بحكمين من الأجانب جاز ذلك ، لأن فائدة بعث الحكمين استطاع حقيقة الحال بين الزوجين ، وهذا أمر يستطيعه الأقارب وغير الأقارب إلا أنه يستحب الأقارب فيه لأنهم أعرف بأحوال الزوجين ، وأشد طلباً للإِصلاح ، وأبعد عن الظنة والريبة ، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس .
والضمير فى قوله - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يجوز أن يعود للحكمين ويجوز أن يكون للزوجين . وكذلك الضمير فى قوله { يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } يحتمل أن يكون للحكمين وأن يكون للزوجين .
والأولى جعل الضمير الأول للحكمين والثانى للزوجين فيكون المعنى : إن يريدا أى الحكمان إصلاحا بنية صحيح وعزيمة صادقة ، يوفق الله بين الزوجين بإلقاء الألفة والمودة فى نفسيهما ، وانتزاع أسباب الخلاف من قلبيهما .
هذا ، وقد اختلف العلماء فيما يتولاه الحكمان ، أيتوليان الجمع والتفريق بين الزوجين بدون . إذنهما أم ليس لهما تنفيذ أمر يتعلق بالزوجين إلا بعد استئذانهما ؟ .
يرى بعضهم أن للحكمين أن يلزما الزوجين بما يريانه بدون إذنهما ، لأن الله - تعالى - سماهما حكمين ، والحكم هو الذى بحسم الخلاف بما تقتضيه المصلحة سواء أرضى المحكوم عليه أم لم يرض ؛ ولأن القاضى هو الذى كلفهما بهذه المهمة فلما أن يتصرفا بما يريانه خيراً بدون إذن الزوجين ؛ ولأن عليا - رضى الله عنه - عندما بعث الحكمين لحسم الخلاف الذى نشب بين أخيه عقيل وبين زوجته قال لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتم أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما . . .
وإلى هذا الرأى اتجه ابن عباس والشعبى ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم .
ويرى الحسن وأبو حنيفة وغيرهما أنه ليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا رضاهما لأنهما وكيلان للزوجين ، ولأن الآية الكريمة قد بينت أن عملها هو الإصلاح فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما ، ولأن الطلاق من الزوج وحده ، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } أى : إنه - سبحانه - عليهم بظواهر الأمور وبواطنها . خبير بأحوال النفوس وطرق علاجها ، ولا يخفى عليه شئ من تصرفات الناس وأعمالهم ، وسيحاسبهم عليها .
فالجملة الكريمة تذييل المقصود منه الوعيد للحكمين إذا ما سلكوا طريقا يخالف الحق والعدل .
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا هاما مما يجب للرجال على النساء ، ومما يجب للنساء على الرجال ، فقد مدحت أولاهما النساء الصالحات المطيعات الحافظات لحق أزواجهن ، ورسمت العلاج الناجع الذى يجب على الرجال أن يستعملوه إذا ما حدث نشوز من زوجاتهم ، وحذرت الرجال من البغى على النساء إذا ما تركن النشوز وعدن إلى الطاعة والاستقامة { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } . ثم طلبت الآية الثانية من ولاة الأمور وصلحاء الأمة أن يتدخلوا بين الزوجين إذا ما نشب خلاف بينهما ، وأن يكون هذا التدخل عن طريق حكمين عدلين عاقلين يتوليان الإِصلاح بينهما ، ويقضيان بما فيه مصلحة الزوجين ، وقد وعد - سبحانه - بالتوفيق بين الزوجين متى صلحت النيات ، وصفت النفوس ، ومالت القلوب نحو التسامح والتعاطف قال - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .
وبهذا التشريع الحكيم تسعد الأمم والأسر ، وتنال ما تصبوا إليه من رقى واستقرار
وبعد هذا البيان الحكيم الذى ساقته السورة الكريمة فيما يتعلق بأحكام الأسرة ووسائل استقرارها ، وعلاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع . .
بعد هذا البيان الحكيم عن ذلك أخذت السورة الكريمة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وإلى التحلى بمكارم الأخلاق ، ونهتهم عن الإِشراك بالله - تعالى - ، وعن الغرور والبخل والرياء ، وغير ذلك من الأعمال التى ترضى الشيطان وتغضب الرحمن فقال - تعالى - : { واعبدوا الله . . . حَدِيثاً } .
قسمت هذه الآية النساء تقسيماً عقلياً ، لأنها إما طائعة ، وإما ناشزة ، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية ، وإما من يحتاج إلى الحكمين ، واختلف المتأولون أيضاً في الخوف ها هنا حسب ما تقدم ، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف ، و «الشقاق » : مصدر شاق يشاق ، وأجري «البين » مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما ، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر ، واختلف من المأمور ب «البعثة » ، فقيل : الحاكم ، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين ، وتعاضدت عنده الحجج ، واقترنت الشبه ، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما ، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر ، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر ، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة ، وقيل : المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين ، وهذا في مذهب مالك ، والأول لربيعة وغيره{[4011]} .
واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فقال الطبري : قالت فرقة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه ، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح ، وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما ، وقالت فرقة : ينظر الحكمان في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق ، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء ، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها ، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك ، وأنه وكل الحكمين على الفرقة ، وأنها للإمام ، وذلك وهم من أبي إسحاق{[4012]} .
واختلف المتأولون في من المراد بقوله : { إن يريدا إصلاحاً } فقال مجاهد وغيره : المراد الحكمان ، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما ، وقالت فرقة : المراد الزوجان ، والأول أظهر ، وكذلك الضمير في { بينهما } ، يحتمل الأمرين والأظهر أنه للزوجين ، والاتصاف ب «عليم خبير » يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح .
عطف على جملة " والتي تخافون نشوزهن " [ النساء : 34 ] وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين ، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان ، ونحو ذلك من أسباب الشقاق ، أي دون نشوز من المرأة .
والمخاطب هنا وُلاَة الأمور لا محالة ، وذلك يرجّح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها .
والشِّقَاق مصدرٌ كَالمُشَاقّة ، وهو مشتقّ من الشِّق بكسر الشين أي الناحية . لأنّ كلّ واحد يصير في ناحية ، على طريقة التخييل ، كما قالوا في اشتقاق العدوّ : إنّه مشتقّ من عدوة الوادي . وعندي أنّه مشتقّ من الشَّقّ بفتح الشين وهو الصدع والتفرّع ، ومنه قولهم : شقّ عصا الطاعة ، والخلاف شقاق . وتقدّم في سورة البقرة ( 137 ) عند قوله تعالى : { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } وأضاف الشقاق إلى ( بين ) . إمّا لإخراج لفظ ( بين ) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان ، أي شقاقَ تباعد ، أي تجَاف ، وإمّا على وجه التوسّع ، كقوله بل مكر اليل وقول الشاعر :
ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير ( في ) يجعل هذا شاهداً له كقوله : { هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] ، والعرب يتوسّعون في هذا الظرف كثيراً ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير ، ومنه قوله : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] في قراءة الرفع .
وضمير { بينهما } عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله : { الرجال قوامون على النساء } [ النساء : 4 ] .
والحكم بفتحتين الحاكم الذي يُرضى للحكومة بغير ولاية سابقة ، وهو صفة مشبّهة مشتقّة من قولهم : حكّموه فحكُم ، وهو اسم قديم في العربية ، كانوا لا ينصبون القضاة ، ولا يتحاكمون إلاّ إلى السيف ، ولكنّهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكماً في بعض حوادثهم ، وقد تحاكم عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاَثَةَ لدى هَرِم بن سنان العبسي ، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها :
عَلْقَمَ ما أنتَ إلى عامر *** الناقضِ الأوتارِ والواتر
وتحاكم أبناء نزار بن معدّ بن عدنان إلى الأفعى الجُرهمي ، كما تقدّم في هذه السورة .
والضميران في قوله : { من أهله } و { من أهلها } عائدان على مفهومين من الكلام : وهما الزوج والزوجة ، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما ، ومعلوم أنّه يشترط فيهما الصفات التي تخوّلهما الحكم في الخلاف بين الزوجين . قال ملك : إذا تعذّر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب ، قال ابن الفرس : « فإذا بعث الحاكم أجنبيّين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النصّ ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما » . قلت : والوجه الأوّل أظهر . وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحبّ فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صحّ .
والآية دالّة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاعَ المستمرّ المعبّر عنه بالشقاق ، وظاهرها أنّ الباعث هو الحاكم ووليّ الأمر ، لا الزوجان ، لأنّ فعل { ابعثوا } مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين ، فلو كانا معيّنين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى . وصريح الآية : أنّ المبعوثين حكمان لا وكيلان ، وبذلك قال أيمّة العلماء من الصحابة والتابعين . وقضى به عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وقاله ابن عباس ، والنخعي ، والشعبي ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق . وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي ، ولا مقال للزوجين في ذلك لأنّ ذلك معنى التحكيم ، نعم لا يَمنع هؤلاء من أن يوكّل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما ، ولا من أن يحكّما حكمين على نحو تحكيم القاضي . وخالف في ذلك ربيعة فقال : لا يحكم إلاّ القاضي دون الزوجين ، وفي كيفية حكمهما وشروطه تفصيل في كتب الفقه .
وتأوّلت طائفة قليلة هذه الآية على أنّ المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما ، كقطع النفقة عن المرأة مّدة حتّى يصلح حالها ، وأنّه ليس للحكمين التطليق إلاّ برضا الزوجين ، فيصيران وكيلين ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وهو قولٌ للشافعي ، فيريد أنّهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عَن الغائب . وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره ، فهو من التأويل . والباعث على تأويله عند أبي حنيفة : أنّ الأصل أنّ التطليق بيد الزوج ، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين ، وهذا تأويل بعيد ؛ لأنّ التطليق لا يَطَّرِد كونه بيد الزوج ؛ فإنّ القاضي يطلّق عند وجود سبب يقتضيه .
وقوله تعالى : { إن يريدا إصلاحاً } الظاهر أنّه عائد إلى الحكمين لأنّهما المسوق لهما الكلام ، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنّها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين ، فواجبُ الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظراً منبعثاً عن نية الإصلاح ، فإن تيسّر الإصلاح فذلك وإلاّ صارا إلى التفريق ، وقد وعدهما الله بأن يوفّق بينهما إذا نويا الإصلاح ، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحقّ والواقعِ ، فإنّ الاتّفاق أطمَن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف ، وليس في الآية ما يدلّ على أنّ الله قصر الحَكَمين على إرادة الإصلاح حتّى يكون سنداً لتأويل أبي حنيفة أنّ الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق ، لأنّ الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأنّ نية الإصلاح تكون سبباً في التوفيق بينهما في حكمهما ، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوّحا عن مفاد التركيب .
وقيل : الضمير عائد على الزوجين ، وهذا تأويل مَن قالوا : إنّ الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما ، أي إن يُرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفّق الله بينهما ، بمعنى تيسير عَوْد معاشرتهما إلى أحسن حالها . وليس فيها على هذا التأويل أيضاً حجّة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق : لأنّ الشرط لم يدلّ إلاّ على أنّ إرادة الزوجين الإصلاح تحقّقه ، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما ، وأين هذا من تعيين خطّة الحكمين في نظر الشرع .
وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق ، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه .