فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

قد تقدّم معنى الشقاق في البقرة ، وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقاً غير شق صاحبه ، أي : ناحية غير ناحيته ، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] » وقول الشاعر :

يا سارق الليلة أهل الدار*** . . .

والخطاب للأمراء والحكام ، والضمير في قوله : { بَيْنَهُمَا } للزوجين ؛ لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما ، وهو ذكر الرجال والنساء { فابعثوا } إلى الزوجين { حُكْمًا } يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وديناً وإنصافاً ، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين ؛ لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما ، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم ، وهذا إذا أشكل أمرهما ، ولم يتبين من هو المسيء منهما ؛ فأما إذا عرف المسيء ، فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه ، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما ، فإن قدرا على ذلك عملا عليه ، وإن أعياهما إصلاح حالهما ، ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ، ولا توكيل بالفرقة من الزوجين . وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وهو مرويّ ، عن عثمان ، وعليّ ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، وحكاه ابن كثير عن الجمهور ، قالوا : لأن الله قال : { فابعثوا حَكَماً منْ أَهْلِهِ وَحَكَماً منْ أَهْلِهَا } وهذا نصّ من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ، ولا شاهدان . وقال الكوفيون ، وعطاء ، وابن زيد ، والحسن ، وهو أحد قولي الشافعي : إن التفريق هو إلى الإمام ، أو الحاكم في البلد لا إليهما ، ما لم يوكلهما الزوجان ، أو يأمرهما الإمام والحاكم ؛ لأنهما رسولان شاهدان ، فليس إليهما التفريق ، ويرشد إلى هذا قوله : { إِن يُرِيدَا } أي الحكمان { إصلاحا } بين الزوجين { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق . ومعنى : { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } أي : يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة . ومعنى الإرادة : خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين ، وقيل : إن الضمير في قوله : { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } للحكمين ، كما في قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا } أي : يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما ، وحصول مقصودهما ، وقيل : كلا الضميرين للزوجين ، أي : إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق ، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ، ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل ، ورجلاً مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه ، وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ، ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين ، وكره الآخر ذلك ، ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ، ولا يرث الكاره الراضي { إِن يُرِيدَا إصلاحا } قال : هما الحكمان { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب .

وأخرج الشافعي في الأمّ ، وعبد الرزاق في المصنف ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال : جاء رجل وامرأة إلى عليّ ، ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم عليّ ، فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي ؛ وقال الرجل : أما الفرقة ، فلا ، فقال : كذبت ، والله حتى تقرّ مثل الذي أقرّت به . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، فقيل لنا : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، والذي بعثهما عثمان . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن الحسن قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ، ويشهدا على الظالم بظلمه ، فأما الفرقة فليست بأيديهما . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحوه . وأخرج البيهقي ، عن عليّ قال : إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر ، فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا .