البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

{ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } الخلاف في الخوف هنا مثله في : واللاتي تخافون .

ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية ، وإمّا النشوز .

وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية ، وإمّا النشوز المستمر ، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً .

وإن استمر النشوز واشتدّ ، بعث الحكمان .

والشقاق : المشاقة .

والأصل شقاقاً بينهما ، فاتسع وأضيف .

والمعنى على الظرف كما تقول : يعجبني سير الليلة المقمرة .

أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف ، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما .

والخطاب في : وإن خفتم ، وفي فابعثوا ، للحكام ، ومن يتولى الفصل بين الناس .

وقيل : للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ ، ولهم نصب الحكمين .

وقيل : خطاب للمؤمنين .

وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج ، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال : وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا ، أو لقال : فإن خفتم شقاق بينكم ، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس ، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي .

والضمير في بينهما عائد على الزوجين ، ولم يجرد ذكرهما ، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء .

والحكم : هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح .

ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه ، وإنما كان من الأهل ، لأنه أعرف بباطن الحال ، وتسكن إليه النفس ، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة .

قال جماعة من العلماء : لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين ، عدلين ، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها .

فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين ، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباً فيمن يفصل بينهما .

وقال بعض العلماء : إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم .

وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين ، من أهل العفاف والستر ، يغلب على الظن نصحهما .

واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق ، وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وهو مروي عن : علي ، وعثمان ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبي سلمة ، وطاووس .

قال مالك : إذا رأيا التفريق فرقا ، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه ، وكلاه أم لا ، والفراق في ذلك طلاق بائن ، وقالت طائفة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه ، فالحكمان وكيلان : أحدهما للزوج ، والآخر للزوجة ، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعن الشافعي القولان .

وقال الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما .

وأما ما يقول الحكمان ، فقال جماعة : يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك ، فإن قال : لا حاجة لي فيها ، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا ، علم أن النشوز من قبله .

وإن قال : أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا ، علم أنه ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك ، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه ، وزجراه ، ونهياه .

{ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما .

وفي بينهما عائد على الزوجين ، أي : قصدا إصلاح ذات البين ، وصحت نيتهما ، ونصحا لوجه الله ، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما ، وألقى في نفوسهما المودة .

وقيل : الضميران معاً عائدان على الحكمين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين ، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة ، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض .

وقيل : الضميران عائدان على الزوجين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما ، وزوال شقاق ، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما .

وقيل : يكون في يريدا عائداً على الزوجين ، وفي بينهما عائداً على الحكمين : أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة ، وأصلحا ، ونصحا .

وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور .

وروي عن مالك : أنه يجري إرسال واحد ، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين ، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك : حكمهما منقوض .

وقال ابن العربي : الصحيح نفوذه .

وأجمع أهل الحل والعقد : على أن الحكمين يجوز تحكيمهما .

وذهبت الخوارج : إلى أن التحكيم ليس بجائز ، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين .

فهل يصح من غير أمر سلطان ؟ ذهب الحسن وابن سيرين : إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان .

وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين : إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي .

{ إن الله كان عليماً حكيماً } يعلم ما يقصد الحكمان ، وكيف يوفقا بين المختلفين ، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين .

/خ39