اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

لما ذكر الضربَ ذَكَرَ هذه المحاكمة ؛ لأنَّ بها يتبينّ المظلومُ من الظَّالِمِ .

قال ابْنُ عَبَّاسٍ{[7786]} : { خِفْتُمْ } أي : علمتم قال : وَهَذَا بِخِلافِ قوله تعالى : { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ، فإنَّ ذلك محمول على الظَّنِّ ، والفرق بَيْنَ الموضِعَيْنِ في الابْتِدَاءِ يظهرُ له أمارات النُّشُوزِ ، فعند ذلِك يحصل الخَوْفُ ، وأمّا بَعْدَ الوعْظِ ، والهجر والضَّرْبِ إن أصرّت على النُّشُوزِ ، فقد حَصَلَ العِلْمُ بالنُّشُوزِ ، فَوَجَبَ حملُ الخَوْفِ ههنا على العِلْمِ .

وقال الزَّجَّاجُ{[7787]} : القول بأن الخَوْفَ هاهنا بمعنى اليَقِيِنِ خطأ ، فإنّا لو عَلِمْنَا الشقاق عَلَى الحَقيقَةِ لم يحتج إلى الحُكمِ ، وأُجيبَ بأن وجود الشقاق وإن كانَ مَعْلُوماً ، إلاَّ أنا لا نَعْلم أن ذلك الشِّقاق صدر عَنْ هَذَا ، أو عَنْ ذلك ، فالحَاجَة إلى الحَكَمِيْنِ لمَعْرِفَةِ هذا المَعْنَى .

قال ابْنُ الخَطيبِ{[7788]} : ويمكنُ أن يُقالَ : وُجود الشِّقَاقِ في الحَالِ{[7789]} مَعْلُومٌ ، ومثل هذا لا يَحْصلُ منهُ خَوْفٌ ، إنَّمَا الخَوْفُ في أنَّهُ هل يَبْقَى{[7790]} ذلك الشِّقَاقُ أم لا ، فالفَائِدَةُ في بعث الحكمين لَيْسَتْ إزالة الشِّقَاقِ الثَّابِت ، فإنَّ ذلك مُحَالٌ ، بل الفائِدَةُ إزالة ذلك الشِّقاق في المُسْتَقْبَلِ .

قوله : { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } فيه وجهان :

أحدهما : أنَّ الشِّقَاقَ مضاف إلى " بَيْنَ " ومعناها الظَّرْفِيَّةُ ، والأصْلُ : " شقاقاً بينهما " ، ولكنَّهُ اتَّسع فيه ، فأضيف الحَدَثُ إلى ظَرْفِهِ وإضافة المصدر إلى الظرف جائزة لحصوله فيه ، وظرفيته باقية نحو : سَرَّنِي مسير اللَّيْلَةِ ، ويعجبني صَوْمُ يَوْم عَرَفَةَ ، ومنه : { بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] .

والثَّاني : أنه خَرَجَ عن الظَّرفيَّةِ ، وبقي كَسَائِرِ الأسْمَاءِ ، كأنه أُريد به المُعَاشرة ، والمصاحبة بين الزَّوْجَيْنِ ، وإلى مَيْلُ أبي البقاء{[7791]} قال :والبَيْنُ هنا الوَصْلُ الكائنُ بين الزوجين " وللشقاق تأويلان :

أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يَشُقُّ على صاحبه .

والثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .

فصل [ معاني الشقاق ]

وقد ورد الشِّقاقُ على أربعة{[7792]} أوْجُهٍ :

الأوَّلُ : بمعنى الخِلاَفِ كهذه الآية ، أي : خلاف بينهما .

الثَّاني : الضَّلال ، قال تعالى : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 53 ] أي : في ضلال .

الثَّالث : أن الشِّقَاقَ : العداوة قال تعالى : { وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } [ هود : 89 ] أي : عداوتي ، و [ العداوة ]{[7793]} وممّا يشق على صاحبه .

الرابع : أنّ كُلَّ واحدٍ منها صار في شقّ بالعداوة ، والمباينة .

فصل [ هل البعث خطاب للإمام أم لآحاد الناس ]

قوله { فَابْعَثُواْ } قال بعضهم : هذا خِطَابٌ للإمام ، أو نائبه وقال آخرون : هَذَا خطابٌ عامٌّ للجميع ، وليس حمله على البَعْضِ أولى من حَمْلِهِ على البَقِيَّةِ ، فَوَجَبَ حملُهُ على الكُلِّ ، فعلى هذا يَكُونُ أمراً لآحاد الأمّة سواء وجد الإمام ، أم لم يُوجَدْ ، فللصَّالحين أنْ يَبْعَثُوا حكماً من أهلِهِ ، وحكماً من أهْلِهَا للإصلاح ، ولأنَّ هذا يَجْرِي مَجْرَى دَفْع الضَّرَر ، ولكل أحد أنْ يَقُومَ به .

قوله : { مِّنْ أَهْلِهِ } فيه وجهان :

أحدُهُمَا : أنه متعلِّق ب { فَابْعَثُواْ } فهي لابتداء الغاية .

والثَّاني : أن يتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّهَا صفة للنكِرَةِ ، أي : كائناً من أهله فهي للتَّبْغيضِ .

فصل

شَرْطُ الحَكَمَيْنِ أن يكونَا عَدْلَيْنِ ، ويجعلهما الحَاكِمُ حَكَمَيْنِ ، والأولى أنْ يكُونَ [ واحد من أهْلِهِ ، وواحد من أهْلِهَا ، لأنَّ أقاربهما أعرف بحالهما من الأجَانِبِ ، وأشدّ طلباً للصلاح ، فإن كانا ]{[7794]} أجنبيّين [ جَازَ ]{[7795]} .

وفائدة الحكمين أن يخلو كُلّ واحد منهما بِصَاحِبِه ، ويستكشف منه حقيقةَ الحَالِ ، ليعرفَ رَغْبَتَهُ في الإقَامَةِ معه على النِّكَاحِ ، أو المُفَارَقَةِ ، ثمَّ يَجتمعُ الحكمان ، فَيَفْعَلاَنِ ما هو المَصْلَحَةُ من طلاقٍ ، أو خَلْع .

وهل للحكمين تَنْفِيذُ أمْرٍ يُلْزِمُ الزَّوِجَيْنِ دون إذْنِهِمَا ، مثل : أن يطلق حَكَمُ الرَّجل ، أو يفتدي حَكَمُ المرْأةِ بشيءٍ من مالِهَا ؟

قال أبُو حَنِيفَةَ : لاَ يَجُوزُ .

وقال غيره{[7796]} : يَجُوزُ .

قوله : { إِن يُرِيدَا } يَجُوزُ أن يَعُودَ الضميران في { إِن يُرِيدَا } و { بَيْنَهُمَا } على الزَّوْجَيْنِ ، أي : إن يُرد الزَّوجان إصلاحاً يُوفِّق اللَّهُ بَيْنَ الزوجين ، وأنْ يَعُودا على الحَكَمَيْنِ ، وأن يُعودَ الأوَّلُ على الحَكميْنِ ، والثَّانِي على الزَّوْجَيْنِ ، وأنْ يَكُونَ بالعكس وأُضْمِرَ الزَّوجان وإن لم يجر لهما ذكرٌ لدلاَلَةِ ذِكْر الرِّجَالِ والنِّسَاءِ عليهما . وجعل أبُو البقاءِ{[7797]} الضَّميرَ في { بَيْنَهُمَا } عائداً على الزَّوْجينِ فقط ، سَوَاءٌ قيل بأن ضمير { يُرِيدُ اللَّهُ } عائداً على الحكمين ، أو الزوجين .

فصل

قال القُرْطُبِيُّ{[7798]} : ويجزي إرسالُ الوَاحِدِ قال : لأن اللَّه - تعالى - حكم في الزنا بأربعة شهود ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزَّانية أنَيْساً وحده ، وقالَ له : " إن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " قال : وإذا جَازَ إرسال الواحد فلو حَكَّمَ الزوجان واحداً أجْزَأ إذَا رَضِيَا بذلك ، وإنما خاطب الله الحكام دون الزوجين ، فإن أرسل الزوجان حَكَمَيْنِ وحَكما نفذ حكمهما ؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعلُ الحكم في كل مسألة ، إذا كان كل واحد منهما عدلاً .

وأصل التوفيق المُوافَقَة ، وهي المُسَاوَاة في أمْرِ من الأمور ، فالتَّوْفِيق اللُّطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة . ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } والمراد : الوعيد للزَّوْجَيْنِ والحَكَمَيْنِ في طريق سُلُوك المُخَالفِ الحق .


[7786]:ينظر: تفسير الرازي 10/74.
[7787]:ينظر السابق.
[7788]:ينظر: تفسير الرازي 10/74.
[7789]:في أ: الحالين.
[7790]:في ب: نقى.
[7791]:ينظر الإملاء 1/179.
[7792]:في ب: ثلاثة.
[7793]:سقط في أ.
[7794]:سقط في ب.
[7795]:سقط في ب.
[7796]:هذا أحد قولي الشافعي رضي الله عنه وهو قول مالك وإسحاق. ينظر تفسير الرازي 10/75.
[7797]:ينظر الإملاء 1/179.
[7798]:ينظر: تفسير القرطبي 5/116.