التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

{ وَإِنْ خِفْتُمْ( 1 ) شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 ) }

1 إن خفتم : بمعنى إن توقعتم أو غلب ظنكم

عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في مناسبة نزولها . والمتبادر أنها استمرار للآية السابقة التي احتوت تقرير قوامة الرجل على الزوجة ومعالجة حالة نشوز الزوجة ؛ حيث جاءت هذه معها أو بعدها تباعا لمعالجة حالة احتمال الشقاق بين الزوجين . فأمرت المسلمين المخاطبين بالمداخلة والنظر في الأمر من قبل حكم من جانب الزوج وأهله وحكم من جانب الزوجة وأهلها فيما ينبغي عمله في سبيل الإصلاح بينهما الذي قد يوفق الله إليه إن أراده الفريقان .

ويتبادر لنا أن الفقرة الأخيرة من الآية أسلوبية ، وأن فيها معنى الحث على الإصلاح والتأميل في توفيق الله إليه مع عدم إغفال إرادة الزوجين مما هو متسق مع التقريرات القرآنية في أهلية المرء للإرادة والاختيار التي أودعها الله فيه .

تعليق على الآية

( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا . . . )الخ .

لقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون{[558]} لأنفسهم أو لأهل التأويل وأئمة الفقه في مدى الإجراءات التي تضمنتها الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي ، مع التنبيه على أننا لم نطلع على أثر نبوي وثيق في ذلك ، وأن الراجح أن الأقوال المساقة هي من قبيل الاجتهاد .

( 1 ) قال المفسرون : إن المخاطبين في الآية يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلمك أو أهل الزوجين أو ذوي الشأن والعلاقة من المسلمين . ونقول : إن من المحتمل أن يكون كل من الجهات الثلاث معا مخاطبة . فكل منها يصح أن تتدخل وتتوسط في الإصلاح بين الزوجين . ولما كانت صيغة الآية تشريعية مطلقة لتكون محل تطبيق وتنفيذ في كل ظرف فيكون ولي أمر المؤمنين أو نائبه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعده . ومع ذلك فإن من المتبادر أنه الأقوى هو أن الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان المرجح فيما كان ينشب بين المسلمين من خلافات والقادر على التنفيذ المطاع فيه . وإذا صح هذا فيكون الخطاب بعد النبي موجها لولي أمر المؤمنين في الدرجة الأولى . وإن كان هذا لا يقلل من احتمال توجيه لذوي الشأن في أسرة الزوجين ومجتمعهما .

( 2 ) هناك من قال : إن الزوجين المتشاقين هما اللذان يختاران حكميهما . فيخبر كل منهما حكمه المختار بما يطلب ويشكو . وهناك من قال : إن هذا شأن ذوي الشأن من الأسرة أو المجتمع أو السلطان على اختلاف تحمل مدى العبارة القرآنية ويكون للطرف المتضرر من موقف الآخر أن يرفع أمره وحسب . والآية تخاطب المخاطبين ببعث الحكمين وهذا يجعل الرجحان للقول الثاني . ويوجهه كون كل من الطرفين قد يختار حكما متعصبا له فيتعسر إيجاد الحل الوسط .

( 3 ) هناك من قال : للحكمين أن يجدا الحلول المناسبة ، ويلزما بها الطرفين عدا التفريق الذي لا يتم إلا بتفويض وموافقة الفريقين . وهناك من قال : إن الحكمين يرفعان ما يريانه من حلول إلى من عينهما . وأن هؤلاء هم الذين يلزمون الزوجين بما يرونه موافقا منها مع اختلاف فيما إذا كان هؤلاء أيضا يستطيعون أن يقرروا التفريق ويلزموا به الزوجين بدون موافقتهما أم لا بد من موافقتهما ؛ حيث قال فريق بحقهم في الإلزام بالتفريق . وقال آخر : إنه لابد من موافقة الزوجين على ذلك . وجميع هذه الأقوال واردة ووجيهة .

ومهما يكن من أمر هذه الاجتهادات فالذي يتبادر لنا صورة عامة ومبدئية أن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق بين الزوجين في حالة حدوث نزاع بينهما أو احتمال ذلك اتساقا مع هدف القرآن العام في تعظيم الرابطة الزوجية والإبقاء عليها ما استطيع إلى ذلك ، وخاطبت ذوي الشأن في سبيل تحقيق ذلك .

والاختلاف في التفريق هو كما يبدو بسبب كون الآية هدفت إلى التوفيق والإصلاح وحسب . ويتبادر لنا أن التفريق يصح أن يرد في مجال الحلول استلهاما من المبدأ القرآني العام للحياة الزوجية الذي شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة ، وهو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالمعروف والإحسان وعدم الإمساك للضرر والعدوان . ويكون التفريق وفق الخطط القرآنية المشروحة في تلك الآيات أيضا ، وهو الخلع والفداء أو الطلاق الرجعي والبائن أو البات .

هذا مع توكيد القول : إن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق ، وإن على الحكمين أو من يتدخل بذل كل جهد في سبيل ذلك في الدرجة الأولى .

ومع صحته واحتمال أن يكون التدخل من ذوي الأسرة والشأن في المجتمع والسلطان ، فالذي يتبادر لنا أن هذا متروك للظروف . فما أمكن حله بدون تدخل السلطان حل . وما كان يحتاج إلى سلطان رفع إليه . وإن كان رفع الأمر إلى السلطان يظل هو ضمن للحسم والتنفيذ .

وقد يصح القول بالإضافة إلى ما تقدم واستلهاما من فحوى الآية أن المخاطبين فيها مدعوون إلى التدخل للإصلاح والتوفيق إذا ما خيف من تسوية نزاع وشقاق بين الزوجين ، ولو لم يرفع الزوجان أمرهما إليهم . والله تعالى أعلم .

ولم نقع على قول بما يجب إذا اختلف الحكمان والمتبادر أن للذي عينهما أن ينتدب مكانهما أو يمحص الأمر بوسائله الأخرى ، أو يرجح رأي أحد الحكمين على الآخر أو يفرض الحل المناسب ، وهذا ما يوحيه ما قلناه أن السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ والأكثر ورودا في الخطاب . والله تعالى أعلم .

حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة

هذا ، وهذه الآية هي خاتمة فصل طويل في شؤون الأسرة المتنوعة ، ومن المحتمل أن يكون بعض آياته نزلت متتابعة فوضعت في مكانها للمناسبة الظرفية والموضوعية . ومن المحتمل أن يكون بعض آياته الأخرى نزلت في غير ظرف نزول الباقي فوضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية .

ويلحظ من هذا الفصل الطويل أن حكمة التنزيل قد أعارت هذه الشؤون عناية كبيرة ، واقتضت نتيجة لذلك أن يحتوي القرآن بيانات وتشريعات كثيرة حولها .

وهذا يلحظ كذلك في الفصل الطويل الذي احتوته آيات سورة البقرة ( 220 241 ) والذي هو من هذا الباب لأنه متصل بالطلاق والعدة والمهر وحالة الزوجة التي يتوفى عنها زوجها وحالة الزوجة التي يطلقها زوجها قبل الدخول ومسألة الرضاع الخ .

وليس هذان الفصلان كل ما جاء في هذا الباب في القرآن . ففي سورة الأحزاب التي مر تفسيرها فصل منه ، ومعظم سورة الطلاق من الباب نفسه ، وفي سورة النور فصول عديدة منه أيضا .

والمتبادر أن من حكمة ذلك كون هذه الشؤون متصلة بحياة جميع الأفراد من آباء وأمهات وزوجات وأولاد ، وبعبارة أخرى : أن لكل إنسان صلة بها بشكل من الأشكال واحتمال أن تكون مثار خلاف ونزاع وشقاق وبلبلة وضغائن بل وجرائم واردة باستمرار في كل ظرف ومكان ، وكل هذا مما يؤدي إلى اضطراب أسروي واجتماعي واقتصادي ومعاشي وسلوكي ، فإذا ما حددت وأوضحت انتفت أسباب ذلك وضمنت الطمأنينة والهدوء والتراضي للأسرة الإسلامية ثم للمجتمع الإسلامي . والله أعلم .


[558]:انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي