التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

ثم بين - سبحانه - ما يجب عمله إذا ما نشب خلاف بين الزوجين فقال - تعالى - : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .

والمراد بالخوف هنا العلم . والخطاب لولاة الأمور وصلحاء الأمة . وقيل لأهل الزوجين .

والمراد بالشقاق ما يحصل بين الزوجين من خلاف ومعاداة . وسمى الخلاف شقاقاً لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه ، أو لأن كل واحد من الزوجين صار فى شق وجانب غير الذى فيه صاحبه .

وقوله { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله شقاقا بينهما . فأضيف الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى لمفعول فيه إتساعا . كقوله - تعالى - { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } وأصله بل مكر فى الليل والنهار .

وإما على إجرائه مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين . كما فى قولك : نهارك صائم .

والمعنى : وإن علمتم أيها المؤمنون أن هناك خلافا بين الزوجين قد يتسبب عنه النفور الشديد ، وانقطاع حبال الحياة الزوجية بينهما ، ففى هذه الحالة عليكم أن تبعثوا { حَكَماً } أى رجلا صالحا عاقلا أهلا للإِصلاح ومنع الظالم من الظلم { مِّنْ أَهْلِهِ } أى من أهل الزوج وأقاربه { وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } أى من أقارب الزوجة بحيث يكون على صفة الأول : لأن الأقارب فى الغالب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإِصلاح ، وتسكن إليهم النفس أكثر من غيرهم .

وعلى الحكمين فى هذه الحالة أن يستكشفا حقيقة الخلاف ، وان يعرفا هل الإِصلاح بين الزوجين ممكن أو أن الفراق خير لهما ؟ .

وظاهر الأمر فى قوله { فابعثوا } أنه للوجوب ، لأنه من باب رفع المظالم ورفع المظالم من الأمور الواجبة على الحكام .

وظاهر وصف الحكمين بان يكون أحدهما من أهل الزوج والثانى من أهل الزوجة . أن ذلك شرط على سبيل الوجوب ، إلا أن كثيرا من العلماء حمله على الاستحباب ، وقالا : إذا بعث القاضى بحكمين من الأجانب جاز ذلك ، لأن فائدة بعث الحكمين استطاع حقيقة الحال بين الزوجين ، وهذا أمر يستطيعه الأقارب وغير الأقارب إلا أنه يستحب الأقارب فيه لأنهم أعرف بأحوال الزوجين ، وأشد طلباً للإِصلاح ، وأبعد عن الظنة والريبة ، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس .

والضمير فى قوله - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يجوز أن يعود للحكمين ويجوز أن يكون للزوجين . وكذلك الضمير فى قوله { يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } يحتمل أن يكون للحكمين وأن يكون للزوجين .

والأولى جعل الضمير الأول للحكمين والثانى للزوجين فيكون المعنى : إن يريدا أى الحكمان إصلاحا بنية صحيح وعزيمة صادقة ، يوفق الله بين الزوجين بإلقاء الألفة والمودة فى نفسيهما ، وانتزاع أسباب الخلاف من قلبيهما .

هذا ، وقد اختلف العلماء فيما يتولاه الحكمان ، أيتوليان الجمع والتفريق بين الزوجين بدون . إذنهما أم ليس لهما تنفيذ أمر يتعلق بالزوجين إلا بعد استئذانهما ؟ .

يرى بعضهم أن للحكمين أن يلزما الزوجين بما يريانه بدون إذنهما ، لأن الله - تعالى - سماهما حكمين ، والحكم هو الذى بحسم الخلاف بما تقتضيه المصلحة سواء أرضى المحكوم عليه أم لم يرض ؛ ولأن القاضى هو الذى كلفهما بهذه المهمة فلما أن يتصرفا بما يريانه خيراً بدون إذن الزوجين ؛ ولأن عليا - رضى الله عنه - عندما بعث الحكمين لحسم الخلاف الذى نشب بين أخيه عقيل وبين زوجته قال لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتم أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما . . .

وإلى هذا الرأى اتجه ابن عباس والشعبى ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم .

ويرى الحسن وأبو حنيفة وغيرهما أنه ليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا رضاهما لأنهما وكيلان للزوجين ، ولأن الآية الكريمة قد بينت أن عملها هو الإصلاح فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما ، ولأن الطلاق من الزوج وحده ، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } أى : إنه - سبحانه - عليهم بظواهر الأمور وبواطنها . خبير بأحوال النفوس وطرق علاجها ، ولا يخفى عليه شئ من تصرفات الناس وأعمالهم ، وسيحاسبهم عليها .

فالجملة الكريمة تذييل المقصود منه الوعيد للحكمين إذا ما سلكوا طريقا يخالف الحق والعدل .

وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا هاما مما يجب للرجال على النساء ، ومما يجب للنساء على الرجال ، فقد مدحت أولاهما النساء الصالحات المطيعات الحافظات لحق أزواجهن ، ورسمت العلاج الناجع الذى يجب على الرجال أن يستعملوه إذا ما حدث نشوز من زوجاتهم ، وحذرت الرجال من البغى على النساء إذا ما تركن النشوز وعدن إلى الطاعة والاستقامة { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } . ثم طلبت الآية الثانية من ولاة الأمور وصلحاء الأمة أن يتدخلوا بين الزوجين إذا ما نشب خلاف بينهما ، وأن يكون هذا التدخل عن طريق حكمين عدلين عاقلين يتوليان الإِصلاح بينهما ، ويقضيان بما فيه مصلحة الزوجين ، وقد وعد - سبحانه - بالتوفيق بين الزوجين متى صلحت النيات ، وصفت النفوس ، ومالت القلوب نحو التسامح والتعاطف قال - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .

وبهذا التشريع الحكيم تسعد الأمم والأسر ، وتنال ما تصبوا إليه من رقى واستقرار

وبعد هذا البيان الحكيم الذى ساقته السورة الكريمة فيما يتعلق بأحكام الأسرة ووسائل استقرارها ، وعلاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع . .

بعد هذا البيان الحكيم عن ذلك أخذت السورة الكريمة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وإلى التحلى بمكارم الأخلاق ، ونهتهم عن الإِشراك بالله - تعالى - ، وعن الغرور والبخل والرياء ، وغير ذلك من الأعمال التى ترضى الشيطان وتغضب الرحمن فقال - تعالى - : { واعبدوا الله . . . حَدِيثاً } .