قوله تعالى : { ينزل الملائكة } ، قرأ العامة بضم الياء وكسر الزاي والملائكة نصب . وقرأ يعقوب بالتاء وفتحها وفتح الزاي والملائكة رفع ، { ينزل الملائكة بالروح } بالوحي ، سماه روحاً لأنه يحيي به القلوب والحق . قال عطاء : بالنبوة . وقال قتادة : بالرحمة . قال أبو عبيده { بالروح } يعني مع الروح ، وهو جبريل . { من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا } ، أعلموا : { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } . وقيل معناه مروهم بقول " لا إله إلا الله " منذرين مخوفين بالقرآن إن لم يقولوا . وقوله { فاتقون }
ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان قدرته ، ورحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فقال تعالى - : { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . } .
والمراد بالملائكة هنا : جبريل - عليه السلام - ومن معه من حفظة الوحى . أو المراد بهم جبريل خاصة ، ولا مانع من ذلك ، لأن الواحد قد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسا عظيما .
والمراد بالروح : كلام الله - تعالى - ووحيه الذى ينزل به جبريل ، ليبلغه إلى من أمره الله بتبليغه إياه .
وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى فى آيات منها قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا . . . } والمعنى : ينزل - سبحانه - الملائكة بكلامه ووحيه ، على من يشاء إنزالهم إليه من عباده المصطفين الأخيار .
وأطلق - سبحانه - على وحيه اسم الروح ، على سبيل التشبيه ، ووجه الشبه : أن بسببهما تكون الحياة الحقة .
فكما أن بالروح تحيا الأبدان والأجساد ، فكذلك بالوحى تحيا القلوب والنفوس وتؤدى رسالتها فى هذه الحياة .
وفى قوله - سبحانه - : { من أمره } إشارة إلى أن نزول الملائكة بالوحى ، لا يكون إلا بسبب أمر الله لهم بذلك ، كما قال - تعالى - حكاية عنهم : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } رد على مطالب المشركين المتعنتة ، والتى من بينها ما حكاه الله تعالى - عنهم فى قوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ . . . } فالآية الكريمة تبين أن نزول الملائكة بالوحى ، إنما هو على من يختاره الله - تعالى - لنزول الوحى عليه ، لا على من يختارونه هم ، وأن النبوة هبة من الله - تعالى - لمن يصطفيه من عباده . قال - تعالى - : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وقوله : { أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } بيان للمقصود من نزول الملائكة بالوحى على الأنبياء .
أى : أنزل - سبحانه - ملائكته بوحيه على أنبيائه ، لكى ينذر هؤلاء الأنبياء الناس ، ويخوفوهم من سوء عاقبة الإِشراك بالله ، ويدعوهم إلى أن يخلصوا العبادة لله - تعالى - وحده ، ويبينوا لهم أن الألوهية لا يصح أن تكون لغيره - سبحانه - .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { أن أنذروا } بدل من { الروح } على أن " أن " هى التى من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت به فى قولهم : كتبت إليه بأن قم .
وجوز بعضهم كون " أن " هنا مفسرة ، فلا موضع لها من الإِعراب ، وذلك لما فى " ينزل الملائكة بالوحى ، من معنى القول ، كأنه قيل : يقول - سبحانه - بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا . . . " .
واقتصر هنا على الإِنذار الذى هو بمعنى التخويف ، لأن الحديث مع المشركين ، الذين استعجلوا العذاب ، واتخذوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى .
والفاء فى قوله { فاتقون } فصيجة : أى ، إذا كان الأمر كذلك ، من أن الألوهية لا تكون لغير الله ، فعليكم أن تتقوا عقوبتى لمن خالف أمرى ، وعبد غيرى .
قال الجمل : " وفى قوله { فاتقون } تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله ، { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } ، فقد جمعت الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية " .
وبعد أن بين - سبحانه - أنه منزه عن أن يكون له شريك ، وأنه قد أنزل الملائكة بوحيه على من يشاء من عباده ، وأنه لا إله يستحق العبادة سواه .
بعد كل ذلك ، بين الأدلة الدالة على قدرته ووحدانيته ، بأسلوب بديع ، جمع فيه بين دلالة المخلوق على الخالق ، ودلالة النعمة على منعمها ، ووبخ المشركين على شركهم ، تارة عن طريق خلقه وحده - سبحانه - للسموات والأرض ، وتارة عن طريق خلقه للإِنسان ، وتارة عن طريق خلقه للحيوان وللنبات ، ولغير ذلك من المخلوقات التى لا تحصى .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل » بالياء وشد الزاي ، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي ، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون ، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير{[7242]} ، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تُنزَّل الملائكةُ » بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة » على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي ، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكةُ » على أنها فاعلة ، ورواها المفضل عن عاصم ، و { الملائكة } هنا جبريل : واختلف المتأولون في { الروح } فقال مجاهد ، { الروح } النبوة ، وقال ابن عباس : الوحي ، وقال قتادة : بالرحمة والوحي ، وقال الربيع بن أنس : كلا كلام الله روح ، ومنه قوله تعالى { أوحينا إليك روحاً من أمرنا }{[7243]} [ الشورى : 52 } وقال ابن جريج : الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه ، وهو كثير ، وهم ملائكة ، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند ، وقال الزجاج : { الروح } ما تحيى به قلوب من هداية الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد ، ألا ترى قوله { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً }{[7244]} [ الأنعام : 122 ] .
قال القاضي أبو محمد : و { من } في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض ، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس ، و { من } في قوله { من يشاء } هي للأنبياء ، و { أن } في موضع خفض بدل من { الروح } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي ، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه » ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد ، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى ، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله » ، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه ، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها ، أو تحكى بالمعنى فقط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.