اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

قوله { يُنَزِّلُ الملاائكة } قد تقدم الخلاف في " يُنَزِّلُ " بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة{[19682]} .

وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم " تُنَزَّلُ " [ مشدداً ]{[19683]} مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق . " المَلائِكَةُ " رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الجحدري{[19684]} : كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي .

وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية{[19685]} - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق ، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل ، والأصل تتنزل بتاءين .

وقرأ ابن أبي{[19686]} عبلة : " نُنَزِّلُ " بنونين وتشديد الزَّاي " المَلائِكةَ " نصباً ، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف .

قال ابن عطية{[19687]} : " وفيهما شذوذٌ كبيرٌ " ولم يبين وجه ذلك .

ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ ، وتخريجه على الالتفات .

قوله : " بِالرُّوحِ " يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة ، أي : ومعهم الروحُ .

قوله " مِنْ أمْرهِ " حال من الروح ، و " مِنْ " إمَّا لبيانِ الجنس ، وإما للتبعيض .

قوله " أنْ أنْذِرُوا " في " أنْ " ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنَّها المفسرة ؛ لأن الوحي فيه ضرب من [ القول ]{[19688]} ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي ؛ قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقال : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] .

الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنَّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشري{[19689]} .

الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ، ووصلت بالأمر ؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قُمْ ، وتقدم البحث فيه .

فإن قلنا : إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنَّها مجرورة المحل بدلاً من " الرُّوحِ " لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس .

الثاني : أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض ؛ كما هو مذهب الخليل .

الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه ؛ وهو مذهب سيبويه{[19690]} .

والأصل : بأن أنذروا ؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور .

قوله : { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام ؛ يقال : أنْذرتهُ ، وأنْذَرتهُ بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد .

وقوله : " فاتَّقُونِ " التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة .

فصل

وجه النَّظم : أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم ؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون ؛ فكأنَّ الكفار قالوا : هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله ؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته ؟ .

فأجاب الله - تعالى - بقوله : { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } وتقرير هذا الجواب : أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا ، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق .

فصل

روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يريد ب " المَلائِكة " جبريل وحده{[19691]} .

وقال الواحديُّ : يسمَّى الواحد بالجمع ؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز ، كقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا } [ القمر : 19 ] ، و{ إنَّآ أَنزَلْنَا } [ النساء : 105 ] ، و { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] .

والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمه الله تعالى : الرحمة{[19692]} ، وقال أبو عبيدة : إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام .

والباءُ في قوله " بِالرُّوحِ " بمعنى " مع " كقولهم : " خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ " أي : ومعه ثيابهُ .

والمعنى : نُنزِّلُ الملائكة مع الروح ؛ وهو جبريل ، وتقرير هذا الوجه : أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الأحوالِ ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة ؛ كما في يوم بدرٍ ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال ، وتارة ملك البحار ، وتارة رضوان ، وتارة غيرهم .

وقوله " مِنْ أمْرهِ " أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله ؛ كقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وقوله : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .

وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يريد الأنبياء المخصوصين برسالته : " أنْ أنْذِرُوا " قال الزجاج : " أنْ " بدلٌ من " الرُّوحِ " .

والمعنى : ينزِّل الملائكة بأن أنذروا ، أي : أعلموا الخلائق ، أنَّه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف .

" فاتَّقُون " فخافون . يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مراتٍ ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مراتٍ ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ .


[19682]:ينظر: الحجة 385، والسبعة لأبي علي الفارسي 5/53 والبحر 5/459، والدر المصون 4/311.
[19683]:في ب: بالتشديد.
[19684]:ينظر: البحر 5/459، والدر المصون 4/311.
[19685]:ينظر: المصدر السابق.
[19686]:ينظر: المصدر السابق.
[19687]:ينظر: المحرر الوجيز 3/378.
[19688]:في ب: القرآن.
[19689]:ينظر: الكشاف 2/593.
[19690]:ينظر: الكتاب 1/464 ـ 465.
[19691]:ذكره الرازي في تفسيره (19/175).
[19692]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/558) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/205) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره الماوردي في "تفسيره" (3/178) عن الحسن وقتادة والبغوي (3/61) عن قتادة.