الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

قوله تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ } : قد تقدَّم الخلافُ في " يُنَزِّل " بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم " تَنَزَّلُ " مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ ، " الملائكةُ " رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلا أنه خَفَّف الزايَ . وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم " تَنَزَّلُ " بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل ، والأصلُ : " تَتَنَزَّل " بتاءَيْن . وقرأ ابنُ أبي عبلة " نُنَزِّلُ " بنونينِ وتشديدِ الزايِ ، " الملائكةَ " نصباً ، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف . قال/ ابن عطية : " وفيهما شذوذٌ " ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك ، ووجهُه : أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ ، وتخريجُه على الالتفات .

قوله : " بالرُّوْحِ " يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإِنزال ، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة " ، أي : ومعهم الروحُ .

قوله : { مِنْ أَمْرِهِ } حالٌ من " الرُّوحِ " . و " مِنْ " : إمَّا لبيانِ الجنسِ ، وإمَّا للتبعيضِ .

قوله : { أَنْ أَنْذِرُواْ } في " أَنْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها المُفَسِّرةُ ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ ، والإِنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ . الثاني : أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره : أنَّ الشأنَ أقولُ لكم : إنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشريُّ : الثالث : أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم : " كتبت إليه بأنْ قُمْ " ، وقد مضى لنا فيه بحثٌ .

فإن قلنا : إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها ، وإنْ قلنا : إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من " الرُّوح " ؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ . الثاني : أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل . والثالث : أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه ، والأصلُ : بأَنْ أَنْذِروا ، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ .

قوله : { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعولُ الإِنذار والإِنذار قد يكونُ بمعنى الإِعلامِ . يقال : نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا ، أي : أَعْلِمُوهم التوحيدَ . وقوله " فاتَّقونِ " التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة .