قوله تعالى : { آمنا واشهد بأنا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } قرأ الكسائي : ( هل تستطيع ) بالتاء .
( ربك ) بنصب الباء ، وهو قراءة علي ، وعائشة ، وابن عباس ومجاهد ، أي : هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك ، وقرأ الآخرون : ( يستطيع ) بالياء ، و( ربك ) برفع الباء ، ولم يقولوا شاكين في قدرة الله عز وجل ، ولكن معناه : هل ينزل ربك أم لا ؟ كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا ؟ وقيل : يستطيع بمعنى يطيع ، يقال : أطاع ، واستطاع ، بمعنى واحد ، كقوله : أجاب واستجاب ، معناه : هل يعطيك ربك بإباحة سؤالك ؟ وفي الآثار : من أطاع الله أطاعه الله ، وأجرى بعضهم على الظاهر ، فقالوا : غلط القوم ، وقالوا قبل استحكام المعرفة ، وكانوا بشرا ، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط ، استعظاماً لقولهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي : لا تشكوا في قدرته .
قوله تعالى : { أن ينزل علينا مائدة من السماء } ، المائدة الخوان الذي عليه الطعام ، وهي فاعلة ، من : ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه ، كقوله ماره يميره ، وامتار : افتعل منه ، والمائدة هي الطعمة للآكلين ، وسمي الطعام ، أيضاً مائدة على الجواز ، لأنه يؤكل على المائدة ، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين ، أي تميل . وقال أهل البصرة : فاعلة ، بمعنى المفعولة ، يعني ميد بالآكلين إليها ، كقوله تعالى { عيشة راضية } أي : مرضية .
قوله تعالى : { قال } ، عيسى عليه السلام مجيباً لهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، فلا تشكوا في قدرته .
وقيل : اتقوا الله أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان .
ثم حكى - سبحانه - بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال : { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } .
" المائدة " الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد ، إذا تحرك . فكأن المائدة تتحرك بما عليها . وقال أبو عبيدة : سميت " مائدة " لأنها ميد بها صاحبها . أي : أعطيها وتفضل عليه بها . والخوان : ما يؤكل عليه الطعام .
ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هي لطعام نفسه ، مأخوذة من " مادة " إذا أفضل .
و " إذ " في قوله { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ } متعلق بمحذوف تقديره : أذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم .
وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه - كما حكى القرآن عنهم - لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } فيه قراءتان سبعيتان :
الأولى : { يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء - على أنه فعل فاعل . وقوله { أَن يُنَزِّلَ } المفعول .
والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز ، لأن الحواريين كانوا مؤمنين ، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله .
ومن تخرجاتهم في معنى هذه القراءة أن قوله { يستطيع } بمعى " يطيع " والسين زائدة . كاستجاب وأجاب .
أي : أن معنى الجملة الكريمة : هل يطيعك - ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء .
وسنفصل القول في تخريج هذه القراءة ، وفي اختلاف المفسرين في إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة .
أما القراءة الثانية : فهي " هل تستطيع ربك " بالتاء وبفتح الباء في " ربك " والمعنى : هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء .
فقوله " ربك " منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها ، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى . أي : أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع ؟
قال القرطبي : قراءة الكسائي وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب وقرأ الباقون بالياء " هل تستطيع " " ربك " بالرفع .
والمعنى على قراءة الكسائي - بالتاء : هل تستطيع أن تسأل ربك . .
قالت عائشة : كان القوم أعلم بالله - تعالى - من أن يقولوا " هل يستطيع ربك " وقال معاذ : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم : هل تستطيع ربك قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء " .
وقوله - سبحانه - { قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة .
أي قال لهم عيسى : اتقوا الله وقفوا عند حدوده ، واملأوا قلوبكم هيبة وخشية منه ، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان ، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد ، عن أمثال هذه المطالب التي قد تؤدي إلى فتنته .
{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم } منصوب بالذكر ، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم . { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة . وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة . وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك ، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب . وقرأ الكسائي " تستطيع ربك " أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف . والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام ، من مادة الماء يميد إذا تحرك ، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة . { قال اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال . { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوته ، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان .
جملة : { إذ قال الحواريّون } يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يومَ يجمع الرسل ، فيكون { إذ } ظرفا متعلّقاً بفعل { قالوا آمنّا } [ المائدة : 111 ] فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر { قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون } [ المائدة : 111 ] ؛ فإنّ قولهم { آمنّا } قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عندما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقيين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة . آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون . وأمّا ما قرّر به « الكشاف » ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به .
ويجوز أن يكون جملة : { إذ قال الحواريّون } ابتدائية بتقدير : اذكر ، على أسلوب قوله تعالى { إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً } في سورة النمل ( 7 ) ، فيكون الكلام تخلّصاً إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ] وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلباً لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود .
وجرى قوله تعالى : { هل يستطيع ربّك } على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول ، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته . ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ » . فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك . فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص . وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس . فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله { ربّ أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] شكّاً في الحال . وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافاً لما في « الكشاف » .
وقرأ الجمهور : { يستطيع } بياء الغيبة ورفع { ربُّك } .
وقرأه الكسائي { هل تَستطيع ربَّك } بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة من قوله { ربّك } على أنّ { ربّك } مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال . وقيل : هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه . وفي رواية الطبري عن عائشة قالت : كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا : هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا : هل تستطيع ربّك . وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي { هل تستطيع ربّك } .
واسم { مائدة } هو الخوان الموضوع عليه طعام ، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعامٍ وما يوضع عليه . والخِوان بكسر الخاء وضمّها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل ، اتّفقوا على أنّه معرّب . قال الجواليقي : هو أعجمي . وفي حديث قتادة عن أنس قال : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ ، ولا في سُكُرُّجَة ، قال قتادة : قلت لأنس : فعلاَم كنتم تأكلون قال : على السُّفَر ، وقيل : المائدة اسم الطعام ، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان . وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة ، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ . وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة . وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ : لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله ، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة . واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به . وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر . وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي .
وقول عيسى حين أجابهم { اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان ، ولذلك جاء بِ { إن } المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم ، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به ، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله : { قال أو لم تؤمن } ، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس . فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه . وقيل : نهاهم عن طلب المعجزات ، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة .