البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (112)

{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قل اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } قال ابن عطية : { إذ قال الحواريون } اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى .

والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } إلى آخر قصة المائدة كان ذلك في الدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون ثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى { أأنت قلت للناس } ، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن { إذ } بدلاً من { يوم يجمع الله الرسل } وأن في آخر الآيات { هذا يوم ينفع الصادقين } ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله : { هذا ينفع الناس } بل الظاهر ما ذكرناه .

وقرأ الجمهور { هل يستطيع ربك } بالياء وضم الباء .

وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء ، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال : ( فإن قلت ) : كيف قالوا { هل يستطيع ربك } بعد إيمانهم وإخلاصهم ؟ ( قلت ) : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ثم أتبعه قوله : { إذ قالوا } فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله : { هل يستطيع ربك } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها .

{ إن كنتم مؤمنين } إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى .

وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وقال قوم : قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى ، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك .

قال ابن الأنباري : لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ وهو يعلم أنه مستطيع له ، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى .

وقال الفارسي : معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه .

وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كان ينزل فاسأله لنا .

قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بن زيد : هل يستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعله انتهى .

وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعاً فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة .

قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة ، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور ، وقال أيضاً ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا ، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه ، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال : الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية { إذ أيدتك بروح القدس } وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوماً لله تعالى ، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا : يا معلم الخبر ، إن حق من عمل عملاً أن يطعم فهل يستطيع ربك .

فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم .

وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق { ربك } بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير .

قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا { هل يستطيع ربك } نزهتهم عن بشاعة اللفظ وعن مرادهم ظاهره .

وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و { أَن ينزل } معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به .

وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى .

ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدوراً لعيسى وأدغم الكسائي لام { هل } في ياء { يستطيع } وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله { إن كنتم مؤمنين } تقريراً للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً .

وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم .

وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم .

وقيل إن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة .

وقيل اتقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم .

وقيل اتقوا معاصي الله .

وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وقال الزمخشري هنا عيسى في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله : أجاز ابن عمر كأني خمر ، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى .

فقوله : عيسى في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله : ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك : يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع ، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة ، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } حيت تكلم الناس عليها .