الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (112)

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك ، إنما قالوا : هل تستطيع أنت ، ربك هل تستطيع أن تدعوه .

وأخرج الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن عبد الرحمن بن غنم قال : سألت معاذ بن جبل عن قول الحواريين { هل يستطيع ربك } أو تستطيع ربك ؟ فقال ؟ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { هل تستطيع ربك } بالتاء .

وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها « هل تستطيع ربك » بالتاء ونصب ربك .

وأخرج أبو عبيد وابن جرير عن سعيد بن جبير أنه قرأها « هل تستطيع ربك » قال : هل تستطيع أن تسأل ربك .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي أن علياً كان يقرأها { هل يستطيع ربك } قال : هل يعطيك ربك .

وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن وثاب وأبي رجاء أنهما قرآ { هل يستطيع ربك } بالياء والرفع .

وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } قال : قالوا : هل يطيعك ربك إن سألته ، فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم ، فأكلوا منها .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { مائدة } قال : المائدة الخوان . وفي قوله { وتطمئن } قال : توقن .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وأبو بكر الشافعي في فوائده المعروفة بالغيلانيات عن سلمان الفارسي قال : لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جداً ، وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها ، فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك { قالوا : نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } .

فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه ، فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائماً مستقبل القبلة ، وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب ، وحاذي الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعاً ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا } تكون عظة منك لنا { وآية منك } أي علامة منك تكون بيننا وبينك ، وارزقنا عليها طعاماً نأكله { وأنت خير الرازقين } .

فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم ، وعيسى يبكي خوفاً للشروط التي اتخذ الله فيها عليهم ، إنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين ، وهو يدعو الله في مكانه ويقول : إلهي اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذاباً ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شاكرين ، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة ، فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى ، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة .

وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمراً عجباً أورثهم كمداً وغماً ، ثم انصرفوا بغيظ شديد ، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليه منديل مغطى قال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا ، فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها .

فقام عيسى : فاستأنف وضوءاً جديداً ، ثم دخل مصلاه فصلى بذلك ركعات ، ثم بكى طويلاً ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً ، ثم انصرف وجلس إلى السفرة ، وتناول المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف عن السفرة ، وإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها سوك ، يسيل منها السمن سيلاً ، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية .

فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءاً يا ابن الصديقة . فقال عيسى : ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة ، فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم بسم الله ، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر .

فقال يا روح الله وكلمته إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية . فقال عيسى : سبحان الله . . ! أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى ! ثم أقبل عيسى على السمكة فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت ، فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها ، ففزع القوم منها وانحاسوا ، فلما رأى عيسى ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون ! يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت ، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول .

فقالوا لعيسى : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد . فقال : معاذ الله من ذلك ، يبدأ بالأكل كل من طلبها . فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها ، فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزمنى وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، يكون مهناها لكم وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم بسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ .

ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئة إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبريء كل زمن منهم أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا ، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات . قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضاً ، الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً ، فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوباً بينهم ، فكانت تنزل يوماً ولا تنزل يوماً ، فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم .

فأوحى الله إلى عيسى أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل الله ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك ، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين ، حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء حق فإنه ارتاب بها بشر منا كثير . قال عيسى : كذبتم وإله المسيح ، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها الله عليكم رحمة ورزقاً وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله ، وأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة من نسائهم آمنين ، فلما كان من آخر الليل مسخهم الله خنازير ، وأصبحوا يتتبعون الأقذار في الكناسات .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس . أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا ، { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } إلى قوله { أحداً من العالمين } فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير » .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفاً مثله . قال الترمذي : والوقف أصح .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : نزلت المائدة عليها ثمر من ثمر الجنة .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المائدة سمكة وأريغفة .

وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لولا بنو إسرائيل ما خنز الخبز ولا أنتن اللحم ، ولكن خَبَّأوه لغد فأُنتن اللحم وخنز الخبز » .

وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن أبي عبد الرحمن السلمي في قوله { أنزل علينا مائدة من السماء } قال : خبزاً وسمكاً .

وأخرج ابن الأنباري وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن جبير قال : نزلت المائدة وهي طعام يفور ، فكانوا يأكلون منها قعوداً ، فأحدثوا فرفعت شيئاً فأكلوا على الركب ، ثم أحدثوا فرفعت البتة .

وأخرج ابن الأنباري عن وهب بن منبه قال : كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف فقالوا لقوم من وضعائهم : إن هؤلاء يلطخون ثيابنا علينا فلو بنينا لها دكاناً يرفعها ، فبنوا لها دكاناً فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء ، فلما خالفوا أمر الله عز وجل رفعها عنهم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عطية العوفي قال : المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام .

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة . أن الخبز الذي أنزل مع المائدة كان من أرز .

وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما تولوا إذا شاؤوا .

وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد من طريق عكرمة عن ابن عباس في المائدة قال : كان طعاماً ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا .

وأخرج ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله . أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاؤوا ، فسرق بعضهم منها وقال : لعلها لا تنزل غداً فرفعت .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة ، وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد بلاء أبلاهم الله به ، وكانوا إذا فعلوا شيئاً من ذلك أنبأهم به عيسى ، فخان القوم فيه فخبأوا وادَّخَروا لِغدٍ .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : أنزل على المائدة كل شيء إلا اللحم . والمائدة الخوان .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ميسرة وزاذان قالا : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت الأيدي فيها بكل طعام .

وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل عن المائدة التي أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل ؟ قال : كان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى ، فكانت يقعد عليها أربعة آلاف ، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك بمثله ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { أنزل علينا مائدة من السماء } قال : هو مثل ضرب ولم ينزل عليهم شيء .

وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن ينزل عليهم .