روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (112)

{ إِذْ قَالَ الحواريون يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ } منصوب ب { اذكر } [ المائدة : 110 ] على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كمال يشير إليه الإظهار في مقام الاضمار . وجوز أن يكون ظرفاً لِ { قَالُواْ } [ المائدة : 111 ] وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء } لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل . وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع . وقال ابن عطية لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } [ المائدة : 115 ] وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والإقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل : { كُونُواْ أنصار الله } [ الصف : 14 ] الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير » والتزم القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة ، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد . ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل : إن معنى { هَلْ يَسْتَطِيعُ } هل يفعل كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي . ونقل هذا القول عن الحسن . والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الايجاد . وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا } [ المائدة : 6 ] الخ . وقيل : إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازاف ونقل ذلك عن السدي . وذكر أبو شامة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له : يا ابن أخي أدع ربك أن يعافيني فقال : اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال : يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال : يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه وسلم لذلك المشاكلة . وقيل : هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا : هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا ؟ لأنه لا يقع شيء بقدون تعلقهما به .

واعترض بأن قوله تعالى الآتي : { اتقوا الله إِن كُنتُم } لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه .

وقيل : إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : { أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ * الموتى } [ البقرة : 260 ] ومعنى { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص ومعنى { نَعْلَمُ أَنَّكَ * قَدْ صَدَقْتَنَا } نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان . ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض .

وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه وعائشة وابن عباس ومعاذ وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ( هل تستطيع ربك ) بالتاء خطاباً لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب { رَبَّكَ } على المفعولية . والأكثرون على أن هناك مضافاً محذوفاً أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف . وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير . والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك . وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير ، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة ك { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ( القارعة ؛ 7 ) ، واختاره الأزهري في «تهذيب اللغة«أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفيها معطية كقولهم للشجرة المثمرة : مطعمة . وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشد عليه بقول الراجز :

وميدة كثيرة الألوان *** تصنع للجيران والأخوان

واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط ، والمراد بها السفرة ، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمي بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالباً كما سميت المزادة راوية . وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فاسفر عما فيه . وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له : اخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام ، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر . وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضاً كما نص عليه بعض المحققين ، و { مّنَ السماء } يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أن مائدة كائنة من السماء .

{ قَالَ } أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك : { اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج . وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقاً . ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : ، 3 ] وقال جل شأنه : { رَّحِيمٌ يََأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } [ المائدة : 35 ] { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام .

( ومن باب الإشارة ) :{ إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك { أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً } أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام { مّنَ السماء } أي من جهة سماء الأرواح { قَالَ اتقوا الله } أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 112 ] ولا تسألوا شريعة مجددة