قوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون مالاً ينكحون به للصداق والنفقة ، { حتى يغنيهم الله من فضله } أي : يوسع عليهم من رزقه . قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } أي : يطلبون المكاتبة ، { مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم } سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب . والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤدي ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد أداء المال ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " . وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : { فكاتبوهم } أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي ، لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة . قوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيراً } اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالاً ، كقوله تعالى : { إن ترك خيراً } أي : مالاً ، وروي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيراً . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة . وقال الشافعي : وأظهر معاني الخبر في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أنبأنا أبو بكر الجورمندي ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " ً . أي : أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون العبد بالغاً عاقلاً ، فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق . قوله عز وجل : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئاً ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعاً ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء ، وهو قول الشافعي . قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : { وآتوهم من مال الله } أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : ( وفي الرقاب ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهم . ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة ، سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق أداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً . قوله عز وجل : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً } الآية ، نزلت في عبد الله بن أبي سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت الجاريتين يوماً ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه ، فأنزل الله هذه الآية : { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم على البغاء . أي : الزنا { إن أردن تحصناً } أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصناً ، كقوله تعالى : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل : شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعاً ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) إن أردن تحصناً ( ولا تكرهوا فتياتكم ) على البغاء . { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } يعني المكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن .
ثم أرشد - سبحانه - الذين لا يجدون وسائل النكاح ، إلى ما يعينهم على حفظ فروجهم ، فقال : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
والاستعفاف : طلب العفة ، واختيار طريق الفضيلة التى من وسائلها ما أشار إليه - سبحانه - فى قوله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } والمعنى : وعلى المؤمنين والمؤمنات " الذين لا يجدون نكاحا " أى : الذين لا يجدون الوسائل والأسباب التى توصلهم إلى الزواج بسبب ضيق ذات اليد ، أو ما يشبه ذلك ، عليهم أن يتحصنوا بالعفاف وأن يصونوا أنفسهم عن الفواحش ، وأن يستمروا على ذلك حتى يرزقهم الله - تعالى - من فضله رزقا ، يستعينون به على إتمام الزواج .
فهذه الجملة الحكيمة وعد كريم من الله - تعالى - للتائقين إلى الزواج ، العاجزين عن تكاليفه بأنه - سبحانه - سيرزقهم من فضله ما يعينهم على التمكن منه ، متى اعتصموا بطاعته ، وحافظوا على أداء ما أمرهم به .
قال صاحب الكشاف : " وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر - أولا - بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر . ثم بالنكاح الذى يحصن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه " .
ثم حض - سبحانه - على إعانة الأرقاء لكى يتخلصوا من رقهم ويصيروا أحرارا . فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } .
والمراد بالكتاب هنا : المكاتبة التى تكون بين السيد وعبده ، بأن يقول السيد لعبده : إن أديت إلى كذا من المال فأنت حر لوجه الله ، فإذا قبل العبد ذلك وأدى ما طلبه منه سيده ، صار حرا .
أى : والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم - أيها الأحرار . . . . فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، أى : أمانة وقدرة على الكسب ، وأعينوهم على التحرر من رقهم بأن تعطوهم شيئا من المال الذى آتاكم الله إياه ، بفضله وإحسانه .
وهكذا نرى الإسلام يأمر أتباعه الذين رزقهم الله نعمة الحرية ، أن يعينوا مماليكهم على ما يمكنهم من الحصول على هذه النعمة .
ومن العلماء من يرى أن الأمر فى قوله - تعالى - : { فَكَاتِبُوهُمْ } وفى قوله { وَآتُوهُمْ } للوجوب ، لأنه هو الذى يتناسب مع حرص شريعة الإسلام على تحرير الأرقاء .
ثم نهى - سبحانه - عن رذيلة كانت موجودة فى المجتمع ، لكى يطهره منها ، فقال : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } .
قال الآلوسى : أخرج مسلم وأبو داود عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبى بن سلول يقال لها " مسيكة " وأخرى يقال لها " أميمة " كان يكرههما على الزنا ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .
وأخرج ابن مردويه عن على - رضى الله عنه - أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، ويأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ، ونزلت الآية .
والفتيات جمع فتاة والمراد بهن هنا الإماء ، وعبر عنهن بقوله " فتياتكم " على سبيل التكريم لهن ، ففى الحديث الشريف : " لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ولكن فتاى وفتاتى " .
والبغاء - بكسر الباء - زنى المرأة خاصة ، مصدر بغت المرأة تبغى بغاء إذا فجرت .
والتحصن : التصون والتعفف من الزنا .
والمعنى : ولا تكرهوا - أيها الأحرار - فتياتكم اللائى تملكوهن على الزنا إن كرهنه وأردن العفاف والطهر ، لكى تنالوا من وراء إكراههن على ذلك ، بعذ المال الذى يدفع لهن نظير افتراشهن .
وقوله - تعالى - { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس المقصود منه أنهن إن لم يردن التحصن يكرهن على ذلك ، وإنما المراد منه بيان الواقع الذى نزلت من أجله الآية ، وهو إكرامهم لإمائهم على الزنا مع نفورهن منه . ولأن الإكراه لا يتصور عند رضاهن بالزنا واختيارهن له ، وإنما يتصور عند كراهنتهن له ، وعدم رضاهن عنه ، ولأن فى هذا التعبير تعبيرا لهم ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : كيف يقع منكم إكراههن على البغاء وهن إماء يردن العفة ويأبين الفاحشة ؟ ألم يكن الأولى بكم والأليق بكرامتكم أن تعينوهن على العفاف والطهر ، بدل أن تكرهوهن على ارتكاب الفاحشة من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا ؟
وقوله - تعالى - : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته - بعباده .
أى : ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله - تعالى - بفضله وكرمه من بعد إكراهكم لهن ، غفور رحيم لهن ، أما أنتم يا من أكرهتموهن على الزنا فالله وحده هو الذى يتولى حسابكم ، وسيجازيكم بما تستحقون من عقاب .
فمغفرة الله - تعالى - ورحمته إنما هى للمكرهات على الزنا ، لا للمكرهين لهن على ذلك .
قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قيل : غفور لهن : وقيل غفور لهم . وقيل : غفور لهن ولهم .
والأظهر : أن المعنى لهن ، لأن المكره لا يؤاخذ بما يكره عليه ، بل يغفره الله له ، لعذره بالإكراه . فالموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره - بكسر الراء - لأنه غير معذور بفعله القبيح .
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله } . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [ بالتعفف ]{[21122]} عن الحرام ، كما قال - عليه الصلاة والسلام{[21123]} - : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَنُ للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء " .
وهذه{[21124]} الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ، إلى أن قال : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ النساء : 25 ] أي صبركم عن تزويج الإماء خير ؛ لأن الولد يجيء رقيقا ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال عكرمة في قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض{[21125]} حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [ والأرض ]{[21126]} حتى يغنيه الله .
وقوله : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا{[21127]} ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على أدائه . وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير ، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه ، وإن شاء لم يكاتبه .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه .
وقال ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن رجل ، عن عطاء بن أبي رَبَاح : إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه{[21128]} ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان ، والحسن البصري .
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك ، أن يجيبه إلى ما طلب ؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر :
قال البخاري : وقال روح ، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء : [ أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا . وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء ]{[21129]} ، أتأثُرُه عن أحد ؟ قال : لا . ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره ، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ - وكان كثير المال ، فأبى .
فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال : كاتبه . فأبى ، فضربه بالدّرة ، ويتلو عمر ، رضي الله عنه : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا }{[21130]} ، فكاتبه{[21131]} هكذا ذكره البخاري تعليقا{[21132]} . ورواه عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا . وقال عمرو{[21133]} بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا{[21134]} وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر : لتكاتِبَنَّه . إسناد صحيح{[21135]} .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر ، عن الضحاك قال : هي عَزْمة .
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي ، رحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :{[21136]} لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه " {[21137]} .
وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده . قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله ، وإذن منه للناس ، وليس بواجب .
وكذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية .
وقوله : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } ، قال بعضهم : أمانة . وقال بعضهم : صدقا . [ وقال بعضهم : مالا ]{[21138]} وقال بعضهم : حيلة وكسبا .
وروى أبو داود في كتاب المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قال : " إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كَلا{[21139]} على الناس " .
وقوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه ، فقال قائلون : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم : مقدار الربع . وقيل : الثلث . وقيل : النصف . وقيل : جزء من الكتابة من غير واحد .
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات . وهذا قول الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبيه ، ومقاتل بن حيان . واختاره ابن جرير .
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : حَثَّ الناس عليه{[21140]} مولاه وغيره . وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي ، وقتادة .
وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب . وقد تقدَّمَ في الحديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة حق على الله عونهم " : فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وَكِيع ، عن ابن شَبِيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أنه كاتب عبدًا له ، يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه حين حل ، فقال : يا أبا أمية ، اذهب فاستعن به في مكاتبتك . قال : يا أمير المؤمنين ، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم ؟ قال : أخاف ألا أدرك ذلك . ثم قرأ : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال عكرمة : كان{[21141]} أول نجم أدّي في الإسلام .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسَةَ ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته . ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع عنه ما أحب{[21142]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : يعني : ضعوا عنهم من مكاتبتهم . وكذلك قال مجاهد ، وعطاء ، والقاسم بن أبي بَزَّة ، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ ، والسدي .
وقال محمد بن سيرين في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره ، عن علي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربع الكتابة " {[21143]} .
وهذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأشبه أنه موقوف على عليّ ، رضي الله عنه ، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي ، رحمه الله{[21144]} .
وقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية : كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت . فلما جاء الإسلام ، نهى الله المسلمين{[21145]} عن ذلك .
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف - في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [ المنافق ]{[21146]} فإنه كان له إماء ، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورئاسة منه فيما يزعم [ قبحه الله ولعنه ]{[21147]}
[ ذكر الآثار{[21148]} الواردة في ذلك ]{[21149]}
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني : محمد بن الحجاج - حدثنا محمد ابن إسحاق ، عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ، يقال لها : معاذة ، يكرهها على الزنى ، فلما جاء الإسلام نزلت : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[21150]} وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في هذه الآية : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها : مُسَيْكَة ، كان يكرهها على الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية إلى قوله { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[21151]} .
وروى النسائي ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر نحوه{[21152]} وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا الأعمش ، حدثني أبو سفيان ، عن جابر قال : كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ جارية يقال لها : مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ، إلى قوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال : " لم يسمع منه ، إنما هو صحيفة " حكاه البزار .
قال أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية ، فولدت أولادًا من الزنى ، فقال لها : ما لك لا تزنين ؟ قالت{[21153]} لا والله لا أزني . فضربها ، فأنزل الله عز وجل : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } {[21154]} وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري : أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر ، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا ، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها : معاذة ، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة{[21155]} . وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها ، رجاء أن تحمل للقرشي ، فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا }{[21156]}
وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يَعْذُرني من محمد ، يغلبنا على مملوكتنا ؟ فأنزل الله فيهم هذا .
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما ، إحداهما اسمها مُسَيْكَة ، وكانت للأنصاريّ ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } يعني : الزنى .
وقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } هذا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له . وقوله : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [ الْحَيَاةِ ] الدُّنْيَا } {[21157]} أي : من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجَّام ، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن{[21158]} - وفي رواية : " مهر البغي خبيث ، وكسب الحجَّام خبيث ، وثمن الكلب خبيث " {[21159]} وقوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ أي : لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر .
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم ]{[21160]} وإثمهن على من أكرههن : وكذا قال مجاهد ، وعطاء الخراساني ، والأعمش ، وقتادة .
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق ، عن عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : لهن والله . لهن والله .
وعن الزهري قال : غفور لهن ما أُكْرهْن عليه .
وعن زيد بن أسلم قال : غفور رحيم للمكرهات .
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن لَهِيعَة ، حدثني عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : في قراءة عبد الله بن مسعود : " فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ{[21161]} رَّحِيمٌ " وإثمهن على من أكرههن .
وفي الحديث المرفوع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . {[21162]}
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
أمِر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم . والسين والتاء للمبالغة في الفعل ، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحاً . ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة . جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع .
ومعنى { لا يجدون نكاحاً } لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف . وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف . فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة .
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج . والفضل : زيادة العطاء .
{ والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى ءاتاكم } .
لما ذُكر وعد الله مَن يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقاً في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج . أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقاً لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة ، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة ، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها .
{ والذين } مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره { فكاتبوهم } وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل .
ودخول الفاء في { فكاتبوهم } لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل : إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ، تأكيداً لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط .
والكتاب : مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يُدفع لسيد العبد منجماً ، أي موزعاً على مواقيت معينة ، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجماً وسموا توزيعها تنجيماً ، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه : تنجيم . وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيماً وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء ، قال زهير :
تُعَفّى الكلوم بالمئين فأصبحت *** يُنجِّمها من ليس فيها بمُجرم
وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما ، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين ، وإن كان الكاتب واحداً والكتب واحداً . وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة .
ومعنى { إن علمتم فيهم خيراً } إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق ، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان .
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى : { فكاتبوهم } . فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيراً في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه ، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته . وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبدُه أن يكاتبه فأبى أنس . وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب .
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله . وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية : أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صُبْح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه . وفي « الكشاف » أن عمر بن الخطاب كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام .
والظاهر أن الخطاب في قوله : { وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم } موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه . وكذلك قال مالك : يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد . وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر .
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ ( الإيتاء ) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلِّق قبل البناء لمطلقته جميعَ الصداق عفواً في قوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } [ البقرة : 237 ] في قول جماعة في محمل { الذي بيده عقدة النكاح } منهم الشافعي .
وقال بعض المفسرين : الخطاب في قوله : { وءاتوهم } للمسلمين . أمرهم الله بإعانة المكاتبين .
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب . وقال إسماعيل بن حماد القاضي : وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً وهذا لا نظير له ا ه . وفيه نظر .
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله .
وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه .
والموصول في قوله { الذي آتاكم } يجوز أن يكون وصفاً ل { مال الله } ويكون العائد محذوفاً تقديره : آتاكموه . ويجوز أن يكون وصفاً لاسم الجلالة فيكون امتناناً وحثاً على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول { ءاتاكم } محذوفاً للعموم ، أي ءاتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة . ويكون مفعول { ءاتاكم } محذوفاً للعموم ، أي ءاتاكم نعماً كثيرة كقوله : { وءاتاكم من كل ما سألتموه } [ إبراهيم : 34 ] .
وأحكام الكتابة وعجز المكاتَب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكاً وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد ، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء .
والبغاء مصدر : باغت الجارية ، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها ، فالبغاء الزنى بأجرة . واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا : باغت الأمة . ولا يقال : بغَتْ . وهو مشتق من البَغي بمعنى الطلب كما قال عياض في « المشارق » لأن سيد الأَمَة بغى بها كسباً . وتسمى المرأة المحترفة به بَغياً بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث . فأصل بَغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء .
وقد كان هذا البغاء مشروعاً في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح 38 : « فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل ( عينائم ) التي على الطريق » ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال : هاتي أدخل عليك . فقالت : ماذا تعطيني ؟ فقال : أرسل لك جدي معزى من الغنم . . ثم قال ودخل عليها فحبلت منه » .
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أُبَي بن سلول وهن : مُعاذة ومُسيكة وأمَيْمَةُ وَعمرَةُ وأرْوَى وقتيلة ، وكان يُكرههن على البغاء بعد الإسلام . قال ابن العربي : روى مالك عن الزهري أن رجلاً من أسرى قريش في يوم بدر قد جُعل عند عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أُبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه ( أي من الأسير القرشي ) فيطلب فداء ولده ، أي فداء رقه من ابن أُبَيّ . ولعل هذا الأسير كان مؤسراً له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة ، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
وقالوا إن عبد الله بن أُبَيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له . فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أُبَيّ : مَنْ يعذِرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا . فأنزل الله هذه الآية ، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أُبَيّ بالإسلام . وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن .
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال ، وهن كما ذكر الواحدي : أم مهزول جارية السائب المخزومي ، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية ، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومزنة جَارية مالك بن عميلة بن السباق ، وجَلالة جارية سهيل بن عمرة ، وأم سُويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة جارية ربيعة بن أسود . وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة ، وقرينة جارية هلال بن أنس . وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير .
قلت : وتقدم أن من البغايا عَناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [ النور : 3 ] . ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة ، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن .
والبغاء في الجاهلية كان معدوداً من أصناف النكاح . ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :
فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها .
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع .
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُّ فهو ابنك يا فلان . تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها .
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جُمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه ، فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم اه .
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق . وكانت عَنَاقُ صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلازانية أو مشركة } [ النور : 3 ] . وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة ، كما قالوا للعبد : غلام .
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفَّوها حق البيان وما أتوا إلا إطناباً في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها .
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى : { ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } موجه إلى المسلمين ، فإن كانت قصة أمة ابن أُبَيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة ، وإن كانت حدثت قبل أن يُظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذٍ وإنما كان تذمر أمته منه داعياً لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء . وأيّاً مَّا كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة .
وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمناً في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارهاً مصرّاً على النفاق . ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت : مَنْ يعذِرنا من محمد يغلِبنا على مماليكنا ، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمناً بعد الهجرة بنحو سنة .
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سراً لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علناً ، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه . واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيهاً بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد .
ولا شك في أن الزنى كان محرماً تحريماً شديداً على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام . وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها . وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم .
ولا يعقل أن يكون البغاء محرماً قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء ، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم .
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] توطئة لتحريم الخمر البتة . وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله : { إن أردن تحصناً } بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف ، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن .
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن . ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به .
وذكر { إن أردن تحصناً } لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن . هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية .
وأنا أقول : إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول .
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلاً على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن . فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريماً باتاً . فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه ، ثم لم يلبث أن حرم تحريماً مطلقاً كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغيّ ، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء .
وقد يكون هذا الاحتمال معضوداً بقوله تعالى بعده : { ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } كما يأتي .
وفي « تفسير الأصفهاني » : « وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا » .
وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا .
وقوله : { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } متعلق ب { تكرهوا } أي لا تكرهوهن لهذه العلة . ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر { إن أردن تحصناً } .
و { عرض الحياة } هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضاً .
وأما قوله : { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيّز الشرط ، وهو صريح في أنه عَفْو عن إكراه .
والذي يشتمل عليه الخبر جانبان : جانب المُكرِهين وجانب المُكرَهات ( بفتح الراء ) ، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن .
وأما الإماء المُكرَهات فإن الله غفور رحيم لهن . وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول : « غفور رحيم لهن والله لهن والله » . وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذرالمُكرَهات لأجل الإكراه ، وأنه من قبيل قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] . 5 وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يُكرِهون الإماء على البغاء .
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير ( مَن ) الشرطية ، أي غفور رحيم له ، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد .
وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازاً واستغني عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره . والتقدير : فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة . والفاء رابطة الجواب .
وحرف ( إنّ ) في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعليل .