معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

قوله تعالى : { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } ، يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض ، { بغير الحق } ، أي : بالفساد . { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } ، لأن وباله راجع عليها ، ثم ابتدأ فقال : { متاع الحياة الدنيا } ، أي : هذا متاع الحياة الدنيا ، خبر ابتداء مضمر ، كقوله : { لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغ } [ الأحقاف-35 ] ، أي : هذا بلاغ . وقيل : هو كلام متصل ، والبغي : ابتداء ، ومتاع : خبره . ومعناه : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، لا يصلح زادا لمعاد لأنكم تستوجبون به غضب الله . وقرأ حفص : " متاع " بالنصب ، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

وهنا ، وبعد الدعاء العريض ، هدأت العاصفة ، وانخفضت الأمواج ، وسكنت النفوس بعض السكون ، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة ؟

كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم : { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ وفى الأرض بِغَيْرِ الحق . . }

أى : فحين أنجاهم الله - تعالى - بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه ، إذا هم يسعون وفى الأرض فساداً . ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد .

وقيد البغى بكونه بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك ، إذ البغي معناه : تجاوز الحق ، يقال : بغي الجرح إذا تجاوز حده وفى الفساد .

فقوله : { بِغَيْرِ الحق } تأكيد لما يفيد البغى من التعدى والظلم ، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد .

وقيل قيده بذلك يخرج البغي على الغير وفى مقابلة بغيه . فإنه يسمى بغيا في الجملة ، لكنه بحق . وهو قول ضعيف ، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم ، ولذا قال القرآن الكريم : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية ، للإِشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود ، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان ، نسوا ما كانوا فيه من أهوال ، وسارعوا إلى الفساد وفى الأرض ، دون أن يردعهم رادع ، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب .

والتعبير بقوله { فِى الأرض } للإِشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها ، ولم يقتصر على جانب من جوانبها .

وقوله - سبحانه - { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } خطاب منه - سبحانه - لأولئك البغاة وفى كل زمان ومكان ، قصد به التهديد والوعيد .

أى : يأيها الناس الذين تضرعوا إلينا وفى ساعات الشدة ، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة ، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين ستتحملون سوء عاقبته وفى الدنيا والآخرة .

واعلموا أن هذا البغي إنما تتمتعون به متاع الحياة الدنيا التيلا بقاء لها ، وإنما هي إلى زوال وفناء .

واعلموا كذلك أن مردكم إلينا بعد هذا التمتع الفاني . فنخبركم يوم الدين بكل أعمالكم ، وسنجازيكم عليها بالجزاء الذي تستحقونه .

وقوله : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ } مبتدأ وخبره { على أَنفُسِكُمْ } أى هو عليكم وفى الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم .

وقوله : { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } : قرأ حفص عن عاصم { متاع } بفتح العين على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر . أى : تتمتعون به متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية .

وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا . وقوله : { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تذييل قصد به تهديدهم على بغيهم ، ووعيدهم عليه بسوء المصير حتى يرتدعوا وينزجروا .

/خ23

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ } أي : من تلك الورطة { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : كأن لم يكن من ذاك شيء{[14153]} { كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }

ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون{[14154]} به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر{[14155]} أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يَدخر{[14156]} الله لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " . {[14157]}

وقوله : { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ } أي : مصيركم ومآلكم{[14158]} { فننبئكم } أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم{[14159]} إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .


[14153]:- في ت ، أ : "كأن لم يكن شيء من ذاك".
[14154]:- في ت : "يضرون".
[14155]:- في ت : "أحذر".
[14156]:- في ت : "يؤخر".
[14157]:- رواه أبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
[14158]:- في ت : "ومآبكم".
[14159]:- في ت : "ونوفكم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

{ يبغون } : أي يفسدون ويكفرون ، والبغي : التعدي والأعمال الفاسدة ، ووكد ذلك بقوله : { بغير الحق }{[6071]} ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ ، وقوله «متاعُ الحياة » رفع ، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء ، والمبتدأ { بغيكم } ، ويصح أن يرتفع { متاع } على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع ، وخبر «البغي » قوله { على أنفسكم } ، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن أبي كثير وابن أبي إسحاق : «متاعَ » بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من «البغي » وخبر البغي على هذا محذوف تقديره : مذموم أو مكروه ونحو هذا ، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله { على أنفسكم } لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي ، ويصح أن ينتصب { متاع } بفعل مضمر تقديره : تمتعون متاع الحياة الدنيا ، وقرأ ابن أبي إسحاق . «متاعاً الحياةَ الدنيا » بالنصب فيهما ، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة ، قال سفيان بن عيينة : { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا ، وعلى هذا قالوا : البغي يصرع أهله .

قال القاضي أبو محمد : وقالوا : الباغي مصروع ، قال الله تعالى { ثم بغي عليه لينصرنه الله }{[6072]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي »{[6073]} وقرأت فرقة «فننبئكم » على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة : «فينبئكم » ، على ضمير الغائب ، والمراد الله عز وجل .


[6071]:-قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: (بغير الحق) والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. اهـ. وعلّق على ذلك أبو حيان في "البحر" فقال: وكأنه قد شرح قوله تعالى: [يبغون] بأنهم يفسدون ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من: بغى الجراح إذا ترقّى للفساد. ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة إلا إذا ذكر أن أصل البغي هو الطلب مطلقا ولا يتضمن الفساد، وحينئذ ينقسم إلى طلب بحق وطلب بغير حق، ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال: "أكد ذلك بقوله: {بغير الحق}. وجواب [لما] هو [إذا] الفجائية وما بعدها، وذلك دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي وقع بعد [لما] وأنها تفيد الترتيب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه حرف، والجواب بها دليل على أنه لم يتأخر (بغيهم) عن (إنجائهم)، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي.
[6072]:- من الآية (60) من سورة (الحج).
[6073]:- أخرجه البخاري، والإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في سننهم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن أبي بكرة، قال ذلك في "الجامع الصغير"، ولفظه فيه: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).