معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . قال مقاتل والضحاك ( ما كان لبشر ) يعني عيسى عليه السلام ، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى ( ما كان لبشر ) يعني عيسى ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي الإنجيل . وقال ابن عباس وعطاء ( ما كان لبشر ) يعني محمدا ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي القرآن ، وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود ، والرئيس من نصارى أهل نجران قالا : يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال : معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله ، وما بذلك أمرني الله ، وما بذلك بعثني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ما كان لبشر ) أي ما ينبغي لبشر ، كقوله تعالى ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ) أي ما ينبغي لنا ، والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه ، كالقوم والجيش ، ويوضع موضع الواحد والجمع ، ( أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ) .

قوله تعالى : { والحكم } الفهم والعلم ، وقيل إمضاء الحكم عن الله عز وجل .

قوله تعالى : { والنبوة } المنزلة الرفيعة بالأنبياء .

قوله تعالى : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا } أي ولكن يقول كونوا .

قوله تعالى : { ربانيين } اختلفوا فيه ، قال علي وابن عباس والحسن : كونوا فقهاء ، علماء وقال قتادة : حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير : العالم الذي يعمل بعلمه ، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء معلمين . وقيل : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقال عطاء : حكماء وعلماء نصحاء لله في خلقه ، قال أبو عبيدة : سمعت رجلاً عالماً يقول : الرباني العالم بالحلال والحرام ، والأمر ، والنهي ، العارف بأنباء الأمة ، ما كان وما يكون ، وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبار فوق العلماء ، والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصائر بسياسة الناس . قال المؤرخ : كونوا ربانيين تدينون لربكم ، من الربوبية ، كان في الأصل ربي فأدخلت الألف للتفخيم ، ثم أدخلت النون لسكون الألف ، كما قيل : صنعاني وبهراني ، وقال المبرد : هم أرباب العلم ، سموا به لأنهم يربون العلم ، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها ، وكل من قام بإصلاح الشيء وإتمامه فقد ربه يربه ، وأحدها ربان كما قالوا ربان ، وعطشان ، وشبعان ، وغرثان ، ثم ضمت إليه ياء النسبة ، كما يقال : لحياني ورقباني . وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال : هو الذي يربي علمه بعمله ، قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة .

قوله تعالى : { بما كنتم } أي بما أنتم ، كقوله تعالى ( من كان في المهد صبياً ) أي من هو في المهد .

قوله تعالى : { تعلمون الكتاب } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، " تعلمون " ، من التعليم ، وقرأ الآخرون " تعلمون " بالتخفيف من العلم .

قوله تعالى : { بما كنتم تدرسون } أي : تقرؤون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

ثم نزه الله - تعالى - أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم ، عقب تنزيهه - لذاته عما يقوله المفترون فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ . . . . } .

قال ابن كثير : " عن ابن عباس قال : " قال أبو رافع القرظى حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل نصرانى من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ - أو كما قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثنى " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فى ذلك قوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .

فقوله - تعالى - { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى : لا يصح ولا ينبغى ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله - تعالى - وأعطاه { الكتاب } الناطق بالحق ، الآمر بالتوحيد ، الناهى عن الإشراك ، وآتاه { الحكم } أى العلم النافع والعمل به . وآتاه { النبوة } أى الرسالة التى يبلغها عنه - سبحانه - إلى الناس ، ليدعوهم إلى عبادته وحده ، وإلى مكارم الأخلاق ، لا يصح له ولا ينبغى بعد كل هذه النعم أن يكفرها { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } بعد هذا العطاء العظيم الذى وهبه الله له { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } أى : لا ينبغى ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله ، وإخلاصهم له ، عن أن يقولوا هذا القول المنكر ، كما يحجزهم عنه - أيضا - ما امتازوا به من نفوس طاهرة ، وقلوب نقية ، وعقول سليمة . . . لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر فهو - سبحانه - القائل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتعبير بقوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تعبير قرآنى بليغ ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } و{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه من نعم ، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه - سبحانه - عنهم ، وهو أن يقولوا للناس : اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله - تعالى - .

ثم بين - سبحانه - ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .

وقوله { رَبَّانِيِّينَ } جمع ربانى نسبة إلى الرب - عز وجل - بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال فى غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية : لحيانى .

والمراد بالربانى : الإنسان الذى أخلص لله - تعالى - فى عبادته ، وراقبه فى كل أقواله وأفعاله ، واتقاه حق التقوى ، وجمع بين العلم النافع والعمل به ، وقضى حياته فى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم .

والمعنى : لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدونى من دون الله ، ولكن الذى يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم : كونوا { رَبَّانِيِّينَ } أى منقلبين على طاعة الله - تعالى - وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص ، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذى أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له ، أى قارئين له بتمهل وتدبر .

وقوله - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } استدراك قصد به إثبات ما ينبغى للرسل أن يقولوه . بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغى لهم أن ينطقوا به ، أى : لا ينبغى لبشر آتاه الله نعماً لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله ، ولكن الذى ينبغى له أن يقوله لهم هو قوله : كونوا ربانيين أى مخلصين له - سبحانه - العبادة إخلاصا تاما .

ففى الجملة الكريمة إضمار ، والتقدير : " ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " فأضمر القول على حسب مذهب العرب فى جواز الإضمار إذا كان فى الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله - تعالى - { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } أى فيقال لهم : أكفرتم ، والباء فى قوله { بِمَا كُنْتُمْ } للسببية . وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له .

وقرأ أبو عمروا وابن كثير ونافع " تعلمون " بإسكان العين وفتح اللام - من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له .

قال الرازى : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القُرَظِي ، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعوننا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ ، أو أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، ولا بِذَلِكَ أَمَرَنِي " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } [ الآية ]{[5244]} إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{[5245]} .

فقوله{[5246]} { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني من دون الله ، أي : مع الله ، فإذا{[5247]} كان هذا لا يصلح{[5248]} لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح{[5249]} لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني أهل الكتاب - كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى :

{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ]{[5250]} } [ التوبة : 31 ] وفي المسند ، والترمذي - كما سيأتي - أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم . قال : " بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ{[5251]} عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " .

فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام . إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام . فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق .

وقوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : ولكن يقول الرسول للناسِ : كونوا رَبَّانيين . قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد ، أي : حكماء علماء حلماء . وقال الحسن وغير واحد : فقهاء ، وكذا رُوِي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس . وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى .

وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا : " تَعْلَمُون " أي : تفهمون{[5252]} معناه . وقرئ { تُعَلِّمُون } بالتشديد من التعليم { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون{[5253]} ألفاظه .


[5244]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5245]:السيرة النبوية لابن هشام (1/554) ورواه الطبري في تفسيره (6/539) من طريق ابن إسحاق به.
[5246]:في أ: "وقوله".
[5247]:في جـ، ر، أ، و: "إذا".
[5248]:في أ، و: "يصح".
[5249]:في أ: "يصح".
[5250]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[5251]:في أ، و: "فذاك".
[5252]:في أ، و: "يعلمون أي يفهمون".
[5253]:في ر: "يحفظون".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

وقوله تعالى : { ما كان لبشر } معناه لأحد من الناس ، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه ، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3273]} ، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه ، كقوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله }{[3274]} وقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }{[3275]} فهذا منتف عقلاً ، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين ، و{ الكتاب } في هذه الآية اسم جنس ، و{ الحكم } بمعنى الحكمة ، ومنه قول النبي عليه السلام : ( إن من الشعر لحكماً ) {[3276]} ، و{ ثم } في قوله تعالى : { ثم يقول } معطية تعظيم الذنب في القول ، بعد مهلة من هذا الإنعام ، وقوله { عباداً } هو جمع عبد ، ومن جموعه عبيد وعبدى{[3277]} ، قال بعض اللغويين ، وهذه الجموع بمعنى ، وقال قوم ، العباد لله ، العبيد والعبدى للبشر ، وقال قوم : العبدى ، إنما تقال في العبيد بني العبيد ، وكأنه بناء مبالغة ، تقتضي الإغراق في العبودية .

قال القاضي أبو محمد : والذي استقريت في لفظة العباد ، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } [ البقرة : 207 ] [ آل عمران : 30 ] و { عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{[3278]} وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله { إن تعذبهم فإنهم عبادك }{[3279]} فنوه بهم ، وقال بعض اللغويين : إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد ، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله ، وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ] .

قُولا لِدُوَدان عبيدِ العَصَى . . . مَا غَرَّكُمْ بالأَسَد الباسلِ{[3280]}

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد لأبي " {[3281]} ؟ ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلاّم للعبيد }{[3282]} لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم }{[3283]} .

قال الإمام أبو محمد : فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله :

{ كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً .

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى : { ما كان لبشر } فقال النقاش وغيره : الإشارة إلى عيسى عليه السلام ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره ، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين : بل الإشارة إلى محمد عليه السلام ، وسبب نزول الآية ، أن أبا رافع القرظي ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت ){[3284]} ، فنزلت الآية ، في ذلك ، قال بعض العلماء : أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمداً صلى الله عليه وسلم ، لما تلا عليهم { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] وإنما معنى الآية ، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله ، فحرفوها بتأويلهم ، وهذا من نوع ليِّهم الكتاب بألسنتهم ، وقرأ جمهور القراء «ثم يقولَ » بالنصب ، وروى شبل{[3285]} عن ابن كثير ومحبوب{[3286]} عن أبي عمرو «ثم يقولُ » برفع اللام وهذا على القطع وإضمار مبتدأ ، وقرأ عيسى بن عمر ، «عباداً ليَ » بتحريك الياء مفتوحة .

وقوله تعالى :

{ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }

المعنى { ولكن } يقول : { كونوا ربانيين } وهو جمع رباني ، واختلف النحاة في هذه النسبة ، فقال قوم : هو منسوب إلى الرب من حيث هو عالم علمه ، العامل بطاعته ، المعلم للناس ما أمر به ، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا ، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر ، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس ، وعالمهم السائس لأمرهم ، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى ، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه رباني ، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني ، فقال أبو رزين{[3287]} : الرباني : الحكيم العالم ، وقال مجاهد : الرباني الفقيه ، وقال قتادة وغيره : الرباني العالم الحليم ، وقال ابن عباس : هو الحكيم الفقيه ، وقال الضحاك : هو الفقيه العالم ، وقال ابن زيد : الرباني والي الأمر ، يرب الناس أي يصلحهم ، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .

قال الفقيه أبو محمد : فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس ، وقوله

{ بما كنتم } معناه : بسبب كونكم عالمين دارسين ، فما مصدرية ، ولا يجوز أن تكون موصولة ، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه : { كنتم تعلمون } ، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان » قد استوفت خبرها ظاهراً ، وهو { تعلمون } وكذلك { تعلمون } قد استوفى مفعوله وهو { الكتاب } ظاهراً ، فلم يبق إلا أن { ما } مصدرية ، إذ لا يمكن عائد ، و { تعلمون } بمعنى تعرفون ، فهي متعدية إلى مفعول واحد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «تعْلمون » بسكون العين ، وتخفيف اللام ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تُعلِّمون » مثقلاً ، بضم التاء وكسر اللام ، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، تقديره : تعلمون الناس الكتاب .

قال الفقيه الإمام : والقراءتان متقاربتا المعنى ، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم { تدرسون } وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانياً ، وليس التعليم شرطاً في ذلك ، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم ، والعلم لا يتضمن التعليم ، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح .

قال الفقيه الإمام : ومن حيث العالم بحال من يعلم ، فالتعليم كأنه في ضمن العلم ، وقراءة التخفيف عندي أرجح ، وقرأ مجاهد والحسن «تَعَلَّمون » بفتح التاء والعين ، وشد اللام المفتوحة ، وقرأ جمهور الناس ، «تدرُسون » بضم الراء ، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره ، وقرأ أبو حيوة «تدرِسون » بكسر الراء ، وهذا على أنه يقال في مضارع درس ، يدرُس ويدرِس وروي عن أبي حيوة ، أنه قرأ «تُدرِّسون » بضم التاء ، وكسر الراء وشدها ، بمعنى تدرسون غيركم .


[3273]:- أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد وأبو داود والنسائي، (نيل الأوطار 3/157).
[3274]:- من الآية (145) من سورة آل عمران.
[3275]:- من الآية (60) من سورة النمل.
[3276]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود (عن ابن عباس) كما أخرجه أبو داود (عن بريدة وهو ضعيف (الجامع الصغير1/331).
[3277]:- للفظة (عبد) جموع عدة، (راجع لسان العرب).
[3278]:- هي على الترتيب من السور والآيات الآية: البقرة: 207، الأنبياء: 26، الزمر: 53.
[3279]:- من الآية (118) من سورة المائدة.
[3280]:- البيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس ودودان: بطن من بطون بني أسد. وعبيد العصا: الذي يساقون بها ذلة وهوانا، وهو أول من لقبهم بهذا اللقب فلزمهم، والمراد بالأسد الباسل: الشاعر نفسه.
[3281]:- أخرجه البخاري في كتاب البيوع والمغازي واللباس، كما أخرجه مسلم في الأشربة، وأبو داود في الخراج، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي بن الحسين. "القسطلاني 4/30"
[3282]:- من الآية (46) من سورة فصلت.
[3283]:- من الآية (53) من سورة الزمر.
[3284]:- أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، (فتح القدير: 1/324).
[3285]:- شبل بن عباد المكي القارئ، ثقة، ضابط، هو أجل أصحاب ابن كثير، مولده في سنة 70 وتوفي قبل سنة 148. روى عن أبي الطفيل، وابن كثير، وعباس بن سهل، وزيد بن أسلم، وغيرهم. وعنه روى ابنه داود، وسعد بن إبراهيم، وابن المبارك، وابن عيينة وغيرهم. "طبقات القراء لابن الجزري". و"تهذيب التهذيب"
[3286]:-هو محمد بن الحسن بن هلال بن محبوب، أبو بكر محبوب "وهو لقبه" البصري، مولى قريش، مشهور كبير، روى القراءة عن شبل بن عباد، ومسلم بن خالد، وأبي عمرو بن العلاء، وعنه روى محمد بن يحيى القطعي، وخلف بن هشام، وروح بن عبد المؤمن، وحدث عنه أحمد ابن حنبل، ومحمد بن سنان وأخرج له البخاري. "طبقات القراء لابن الجزري 2/123".
[3287]:- هو مسعود بن مالك أبو رزين الأسدي مولى أبي وائل الكوفي، روى عن معاذ بن جبل، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الله، وعاصم بن أبي النجود، والأعمش، وغيرهم، شهد صفين مع علي، كان عالما، فهما، ثقة، وقع ذكره في البخاري في الحيض من صحيحه، أرخ بن قانع وفاته بسنة 85هـ وقال خليفة: مات بعد الجماجم. "تهذيب التهذيب. 10/ص: 118" و"طبقات القراء لابن الجزري".