قوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } . أي بما آمنتم به ، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس ، والمثل صلة كقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } أي ليس هو كشيء ، وقيل : معناه فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به أي أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم ، وقيل : معناه فإن آمنوا مثل ما أمنتم به و الباء زائدة كقوله تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة } وقال أبو معاذ النحوي : معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم .
قوله تعالى : { فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق } . أي في خلاف ومنازعة قال ابن عباس وعطاء يقال : شاق مشاقةً إذا خالف كأن كل واحد آخذ في شق غير شق صاحبه ، قال الله تعالى : { لا يجرمنكم شقاقي } أي خلافي ، وقيل : في عداوة ، دليله : قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله }أي عادوا الله .
قوله تعالى : { فسيكفيكهم الله } . يا محمد أي يكفيك شر اليهود و النصارى وقد كفى بإجلاء بني النضير ، وقتل بني قريظة وضرب الجزية على اليهود و النصارى .
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين ، فقد أصابوا الهدى ، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } .
والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها . لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } إلخ .
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة ، ويستميل النفوس الشاردة ، لبعده عن التعصب والعناد ، لأنه الحق الذي تؤيده العقول السليمة ، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم .
وقوله تعالى : { فَقَدِ اهتدوا } ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون ، أي : فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا .
وكلمة : ( مثل ) في الآية الكريمة معناها ، نفس الشيء وحقيقته . المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا ، ومنه قول العرب : " مثلك لا يبخل " ولامراد أنت لا تبخل . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " مثل " هنا على حقيقتها وهي الشبية والنظير ، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين ، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به .
قال الإِمام القرطبي : " المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا " .
وقال ابن جرير : فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : ( مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به ) يعني ذلك ( مر عمرو بأخيك مثل مروري به ) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم ، فكذلك قوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به " .
وقوله تعالى : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } بيان لحالهم عند إعراضهم ، عن دعوة الحق ، ووعد من الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم ، والعصمة من شرورهم .
والشقاق : المنازعة والمخالفة وأصله من الشق سوهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .
وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .
والمعنى : وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذي تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك ، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم ، وينصرك عليهم ، فهو سميع لما يقولونه فيك ، عليه بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد ، وهو الكفيل بكف بأسهم ، وقطع دابرهم .
وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله : " فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ " مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه .
ورتب قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم ، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى . وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم .
وقد أوفى الله - تعالى - بوعده ، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم ، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره . فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر ، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة .
يقول تعالى : { فَإِنْ آمَنُوا } أي{[2851]} : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون ، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي : فقد أصابوا الحق ، وأرشدوا إليه { وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحق إلى الباطل ، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي : فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، حدثنا زياد بن يونس ، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم ، قال : أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه . قال زياد : فقلت له : إن الناس يقولون : إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل ، فوقع الدم على
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال نافع : بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم{[2852]} .
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } من باب التعجيز والتبكيت ، كقوله تعالى : { فائتوا بسورة من مثله } إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ، ولا دين كدين الإسلام . وقيل : الباء للآلة دون التعدية ، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : { جزاء سيئة بمثلها } . والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، أو المثل مقحم كما في قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } أي عليه ، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي إن أعرضوا عن الإيمان ، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناوأة والمخالفة ، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر
{ فسيكفيكهم الله } تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم { وهو السميع العليم } إما من تمام الوعد ، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، أو وعيد للمعرضين ، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.