الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

قوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين ، وقيل{[1248]} : إن الباء زائدة مؤكدة . وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري :

{ فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا } وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف ، " فمثل " زائدة كما هي في قوله : { ليس كمثله شيء{[1249]} } [ الشورى : 11 ] أي ليس كهو شيء . وقال الشاعر{[1250]} :فَصُيِّرُوا مثل كعصف مأكول

وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال : لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل ، ولكن قولوا : بالذي آمنتم به . تابعه علي بن نصر الجهضمي عن شعبة ، ذكره البيهقي . والمعنى : أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا ، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين{[1251]} إلى الشقاق { فسيكفيكهم الله } . وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا : ويحتمل أن تكون الكاف في قوله : { ليس كمثله شيء } زائدة . قال : والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نفي التشبيه عن الله عز وجل . وقال ابن عطية : هذا من ابن عباس على جهة التفسير ، أي هكذا فليتأول . وقد قيل : إن الباء بمعنى على ، والمعنى : فإن آمنوا على مثل إيمانكم . وقيل : " مثل " على بابها أي بمثل المنزل ، دليله قوله : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب{[1252]} } [ الشورى : 15 ] ، وقوله : { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم{[1253]} } . [ العنكبوت : 46 ] .

قوله تعالى : { وإن تولوا } أي عن الإيمان { فإنما هم في شقاق } قال زيد بن أسلم : الشقاق المنازعة . وقيل : الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي . وأصله من الشق وهو الجانب ، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .

قال الشاعر : إلى كم تقتل العلماء قسرا *** وتفجر بالشقاق وبالنفاق{[1254]}

وقال آخر : وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بُغَاةٌ ما بقينا في شقاق

وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب ، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .

قوله تعالى : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } أي فسيكفي الله رسوله عدوه . فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين ، فأنجز له الوعد ، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير . والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان . ويجوز في غير القرآن : فسيكفيك إياهم{[1255]} . وهذا الحرف { فسيكفيكهم الله } هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك .

و{ السميع } لقول كل قائل { العليم } بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم . وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة ، ودراعة{[1256]} مكتوب بين كتفيها { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } ، وسيف معلق في وسطه ، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي ، فقال له : كيف حالك يا أبا دلامة ؟ قال : بشر يا أمير المؤمنين قال : وكيف ذاك ؟ قال : ما ظنك برجل وجهه في وسطه ، وسيفه في استه ، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك المنصور منه ، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته .


[1248]:هذه الجملة من تمام القول الأول وليست قولا آخر كما يتبادر من السياق.
[1249]:راجع ج 16 ص 8
[1250]:هو حميد الأرقط، وصف قوما استؤصلوا فشبههم بالعصف الذي أكل حبه. والعصف التبن. (عن شرح الشواهد).
[1251]:في ج: عن التبيين". وفي ب، ز: "عن التدين".
[1252]:راجع ج 16 ص 13
[1253]:راجع ج 13 ص 351.
[1254]:في: ا: "... يقتل... "بالباء.
[1255]:زيادة من إعراب القرآن للنحاس.
[1256]:الدراعة والمدرع: جبة مشقوقة المقدم.