قوله تعالى : { ليغفر } لام كي ، معناه : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح . وقال الحسين بن الفضل : هو مردود إلى قوله : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ( محمد-19 ) { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } و { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } الآية . وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره } ( النصر-1-3 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة ، وما تأخر إلى وقت نزول هذه السورة . وقيل : ما تأخر مما يكون ، وهذا على طريقة من يجوز الصغائر على الأنبياء . وقال سفيان الثوري : ما تقدم مما عملت في الجاهلية ، وما تأخر : كل شيء لم تعمله ، ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد ، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره ، وضرب من لقيه ومن لم يلقه . وقال عطاء الخراساني : ما تقدم من ذنبك : يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك ، وما تأخر من ذنب أمتك بدعوتك . { ويتم نعمته عليك } بالنبوة والحكمة ، { ويهديك صراطاً مستقيماً } أي : يثبتك عليه ، والمعنى ليجمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام . وقيل : { ويهديك } أي يهدي بك .
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك مظاهر فضله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
واللام فى قوله { لِّيَغْفِرَ } متعلقة بقوله : { فَتْحاً } وهى للتعليل . والمراد بما تقدم من ذنبه - صلى الله عليه وسلم - ما كان قبل النبوة ، وبما تأخر منه ما كان بعدها .
والمراد بالذنب هنا بالنسبة له - صلى الله عليه وسلم - ما كان خلاف الأولى ، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه - صلى الله عليه وسلم - ذنب ، لأن غفران الذنوب معناه : سرتها وتغطيتها وإزالتها .
قال الشوكانى : وقوله - تعالى - : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } اللام : متعلقة بفتحنا وهى لام العلة ، قال المبرد : هى لام كى ومعناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا - أى : ظاهرا واضحا مكشوفا - لكى يجتمع لك مغ المغفرة تمام النعمة فى الفتح ، فلما انضم إلى المغفرة شئ حادث واقع حسن معنى كى .
وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكى يجعل الفتح علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام الصيرورة .
وقال بعض العلماء : وقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } هو كناية عن عدم المؤاخذة . أو المراد بالذنب ما فرط منه - صلى الله عليه وسلم - من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه - صلى الله عليه وسلم - أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه ذنب . لأن الغفر هو الستر ، والستر إما بين العبد والذنب ، وهو اللائق بمقام النبوة ، أو بين الذنب وعقوبته ، وهو اللائق بغيره .
واللام فى { لِّيَغْفِرَ } للعلة الغائية . أى : أن مجموع المتعاطفات الأربعة غاية للفتح المبين ، وسبب عنه لا كل واحد منها .
والمعنى : يسرنا لك هذا الفتح لإِتمام النعمة عليك ، وهدايتك إلى الصراط المستقيم ، ولنصرك نصرا عزيزا .
ولما امتن الله عليه بهذه النعم ، صدرها بما هو اعظم ، وهو المغفرة الشاملة ليجمع له بين عزى الدنيا والآخرة . فليست المغفرة مسببة عن الفتح .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - مع هذه المغفرة من الله - تعالى - له ، أعبد الناس لربه ، وأشدهم خوفا منه ، وأكثرهم صلة به .
قال ابن كثير : قال الإِمام أحمد : " حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يصلى حتى تَرِمَ قدماه أى : تتورهم - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدا شكورا " " .
وعن عروة بن الزبير " عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه - أى : تتشقق - فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عدبا شكورا . . " " .
وقوله - تعالى - : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } معطوف على ما قبله . أى : ويتم - سبحانه - نعمه عليك - أيها الرسول الكريم - بأن يظهر دعوتك ، ويكتب بها النصر ، والخلود ، ويعطيك من الخصائص والمناقب ما لم يعطه لأحد من الأنبياء ، فضلا عن غيرهم .
{ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى : ويهديك ويرشدك - سبحانه - بفضله وكرمه ، إلى الطريق القويم ، والدين الحق ، والأقوال الطيبة ، والأعمال الصالحة . .
وقوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } : هذا من خصائصه - صلوات الله وسلامه عليه - التي لا يشاركه فيها غيره . وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة . ولما كان أطوع خلق الله لله ، وأكثرهم{[26761]} تعظيما لأوامره{[26762]} ونواهيه . قال حين بركت به الناقة : " حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها " {[26763]} فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح ، قال الله له : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم .
{ ليغفر لك الله } علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهرا ليصير ذلك بالتدريج اختيارا ، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة . { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه . { ويتم نعمته عليك } بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة . { ويهديك صراطا مستقيما } في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.