اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا} (2)

قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } متعلق «بِفَتَحْنَا » وهي لام العلة . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ :

فإن قلتَ : كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة ؟

قلتُ : لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة ، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز كأنه قال : يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة ، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن ، وإعراض العاجل والآجل .

ويجوز أن ( يكون ){[51597]} فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب{[51598]} . وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية ، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول : كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة ؟ ثم يقول : لم يجعل مُعَلَّلاً ؟

وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين : آخرين ؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال : إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ ، والنُّصْرَةَ به عَمَت : الثاني : أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده . الثالث : أن الفتح سبب الحِجَج ، وبالحَجِّ{[51599]} تحصل المغفرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحج «اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً » .

الرابع : المراد منه التعريف تقديره : إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم{[51600]} . وقال ابن عطية : المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ{[51601]} يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة{[51602]} . وهذا كلام ماش على الظاهر ، وقال بعضهم : إنَّ هذه اللام لام القَسَم{[51603]} والأصل : لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام «كي » ، وحذفت النون . وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر ، وبأنها لا تنصب المضارع{[51604]} .

وقد يقال : إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ .

فصل

لم يكن للنبي صلى لله عليه وسلم ذنب فما يغفر له ؟ فقيل : المراد ذنب المؤمنين . وقيل : المراد ترك الأفْضل . وقيل : الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد . قال ابن الخطيب : وهي تصونهم عن العُجْبِ . وقيل : المراد بالمغفرة العِصْمة . ومعنى قوله : «وَمَا تَأَخَّر » قيل : إنه وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة . وقيل : ما تقدم على الفتح .

وقيل : هو للعموم ، يقال : اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم . وقيل : من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة . وفيه وجوه أُخر ساقطة . قال ابن الخطيب : منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر «مَارِيَةَ »{[51605]} «وَمَا تَأَخَّر » من أمر «زَيْنَبَ »{[51606]} وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ .

قوله : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } قيل : إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة وقيل : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوٌّ ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر ، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح{[51607]} .

وقيل : ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة ، وأما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ، وفي الآخرة : بِقبول شفاعتك .

فصل

قال الضحاك : إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال ، كان الصلح من الفتح . فإنْ كانت{[51608]} اللام في قوله : «لِيَغْفِرَ » لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح . وقال الحسن بن الفضل : هو مردود إلى قوله : «واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار » .

وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } [ النصر : 13 ] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة «وما تأخر » إلى وقت نزول هذه السورة .

وقيل : ما تأخر مما يكون . وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء . وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ : «ما تقدم » مما عملت في الجاهلية «وما تأخر » كل شيء لم تعمله كما تقدم .

وقال عطاء الخراساني : { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك ، «وَمَا تَأَخَرَ » ذنوب أمتك بدعوتك . { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة والحكمة{[51609]} .

قوله : { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } قيل : يهدي بك . وقيل : يُديمك على الصراط المستقيم{[51610]} ، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده ( و ){[51611]} العاجلة والآجلة . وقيل : المراد التعريف ، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم{[51612]} .

/خ3


[51597]:كذا في الزمخشري وقد سقطت من ب.
[51598]:وانظر الكشاف 3/541.
[51599]:في ب وبالحجج جمع حجة.
[51600]:بالمعنى من تفسير الإمام الرازي 28/78.
[51601]:في ب لكن تحريف.
[51602]:البحر المحيط 8/90 وهي ما تسمى بلام العاقبة وهذه اللام أنكرها البصريون ومن تابعهم كالزمخشري الذي قال: إنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة. انظر المغني 214 بتصرف.
[51603]:نقل القرطبي في الجامع أنه أبو حاتم السجستاني.
[51604]:ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد بتأويل: ليقومن زيد. وانظر السابق والبحر المحيط 8/90 أقول: وهذا مما لم يحفظ في لسانهم.
[51605]:القبطية.
[51606]:بنت جحش.
[51607]:الرازي 28/78.
[51608]:في ب فإن قلت.
[51609]:ذكر هذه الآراء القرطبي في الجامع 16/262 و263.
[51610]:هذا رأي الرازي في تفسيره 28/78.
[51611]:زيادة لا معنى لها من أ.
[51612]:ذكرهما أيا الرازي في مرجعه السابق.