قوله تعالى : { وإن كلا } ، قرأ ابن كثير و نافع وأبو بكر : وإن كلا ساكنة النون على تخفيف إن الثقيلة ، والباقون بتشديدها .
قوله تعالى : { لما } شددها هنا وفى يس والطارق : ابن عامر وعاصم وحمزة ، وافق أبو جعفر هاهنا ، وفى الطارق وفى الزخرف ، بالتشديد عاصم وحمزة والباقون بالتخفيف ، فمن شدد قال الأصل فيه : { وإن كلا } لمن ما ، فوصلت من الجارة بما ، فانقلبت النون ميما للإدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن ، فبقيت لما بالتشديد ، وما هاهنا بمعنى : من ، هو اسم لجماعة من الناس ، كما قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } [ النساء-3 ] ، أي : من طاب لكم ، والمعنى وإن كلا لمن جماعة ليوفينهم . ومن قرأ بالتخفيف قال : ما صلة زيدت بين اللامين ليفصل بينهما كراهة اجتماعهما ، والمعنى : وإن كلا ليوفينهم . وقيل : ما بمعنى من ، تقدير : لمن ليوفينهم ، واللام فيلما لام التأكيد التي تدخل على خبر إن ، وفي ليوفينهم لام القسم ، والقسم مضمر تقديره والله ، { ليوفينهم ربك أعمالهم } ، أي : جزاء أعمالهم ، { إنه بما يعملون خبير } ، بصير .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب ، الشاكين فى صدقه ، سوف يجمعهم الله - تعالى - مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال - تعالى - { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وقد وردت فى هذه الآية الكريمة عدة قراءات متوارتة منها : قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل فى تخريجها :
إن لفظ { كلا } اسم { إن } والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام فى ، { لما } هى الداخلة فى خبر { إن } وما بعد اللام هو حرف " من " الذى هو من حروف الجر ، و " ما " موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيحكون تقدير الكلام : وإن كلا " لمن ما " فقلبت النون ميما للإِدغام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت " لما " والجار والمجرور خبر " إن " ، واللام فى { ليوفينهم } ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة { لما } .
والتقدير : وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك ليوفينهم - سبحانه - جزاء أعمالهم بدون أن يلفت منهم أحد ، إنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها .
وفى الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك فى نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد - أيضا - فى أن ما عليه المشركون هو الباطل الذى لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذى تلقاه الخلف عن السلف .
وكان مقتضى حال الدعوة الإِسلامية فى تلكالفترة التى نزلت فيها هذه السورة - وهى فترة ما بعد حادث الإِسراء والمعراج وقبل الهجرة - يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين .
قال الإِمام الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجيزة على المستحقين فى هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات :
أولها : كلمة " إن " وهى للتأكيد ، وثانيها كلمة " كل " وهى أيضا للتأكيد ، وثالثها : اللام الداخلة على خبر " إن " وهى تفيد التأكيد - أيضا - ، ورابعها حرف " ما " إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها : القسم المضمر فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم : وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها : النون المؤكدة فى قوله " ليوفينهم " .
فجميع هذه المؤكدات السبتعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق . .
ثم أخبرنا{[14937]} تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ، ويجزيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، فقال : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عليم بأعمالهم جميعها ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها .
وفي هذه الآية قراءات كثيرة ، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب،...
{إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يقول تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد، {خبير}، لا يخفى عليه شيء من عملهم، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) في الآخرة؛ إن كان شرا فشر، وإن كان حسن فحسن...
المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد والوعيد؛ فإن توفيه جزاء الطاعات وعد عظيم، وتوفيه جزاء المعاصي وعيد عظيم، وقوله تعالى: {إنه بما يعملون خبير} توكيد الوعد والوعيد، فإنه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالما بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان... إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات:
وثانيها: كلمة «كل» وهي أيضا للتأكيد.
وثالثها: اللام الداخلة على خبر {إن} وهي تفيد التأكيد أيضا.
ورابعها: حرف {ما} إذا جعلناه على قول الفراء موصولا.
وخامسها: القسم المضمر، فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم.
وسابعها: النون المؤكدة في قوله {ليوفينهم} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم. إنه بما يعملون خبير) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل. وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين...
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين!.. إنها فترة تهتزفيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت. وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه!... كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون! وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق!...
{وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}: إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة. ويبين الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت –لا محال -وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفرا أو إيمانا، صلاحا أو فسادا، وميعاد ذلك هو يوم القيامة...