اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم } الآية .

هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً ، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير{[19006]} وأبو بكر عن عاصم " وإنْ " بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأمَّا " لمّا " فقرأها مشدَّدةً هنا وفي " يس " وفي سورة الزخرف ، وفي سورة الطارق ، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة ، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً ، فروى عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا{[19007]} جميع ذلك بالتخفيف ، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ " وإنْ " و " لمَا " مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف " إنْ " وثقَّل " لمَّا " ، وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا " إنَّ " و " لمَّا " معاً ، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا " إنَّ " وخففا " لما " فهذه أربعُ مرات للقراء في هذين الحرفين ، هذا في المتواتر .

وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر :

إحداها : قراءة أبيّ والحسن{[19008]} وأبان بن تغلب " وإنْ كلٌّ " بتخفيفها ، ورفع " كل " ، و " لمَّا " بالتشديد .

الثانية : قراءة اليزيدي{[19009]} وسليمان بن أرقم " لمَّا " مشددة منونة ، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف " إنَّ " ولا تشديدها .

الثالثة : قراءة الأعمش{[19010]} وهي في حرف ابن مسعود كذلك : " وإنْ كلٌّ " بتخفيف " إن " ورفع " كل " .

الرابعة : قال أبو{[19011]} حاتم : الذي في مصحف أبي " وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ " وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات ؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال " إن " المخففة ، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب . قال سيبويه : " حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب من يقول : " إنْ عمراً لمُنْطلقٌ " ؛ كما قالوا : [ الهزج ] .

. . . *** كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان{[19012]}

قال : وَوَجْهُه من القياس : أنَّ " إنْ " مُشبهةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ ، نحو : " لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً " " فلا تكُ في مريةٍ " وكذلك : لا أدْر .

قال شهابُ الدٍّين{[19013]} : وهذا مذهبُ البصريين ، أعني : أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل ، وأن تهمل ك : " إنْ " والأكثرُ الإهمالُ ، وقد أجمع عليه في قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] وبعضها يجبُ إعماله ك " أنْ " بالفتح ، و " كأنْ " ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمير بارز إلا ضرورة ، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك " لكن " .

وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في " إن " المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم ؛ بدليل هذه القراءة المتواترة ؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر : [ الطويل ]

. . . *** كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم{[19014]}

وقال الفراء : لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ ؛ كقوله : [ الطويل ]

فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني *** طلاقكِ لم أبْخَلْ وأنتِ صديقُ{[19015]}

قال : " لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع " وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه ، وقول الآخر : [ الرجز ]

كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ{[19016]} *** . . .

الرَّشاء : الحَبْلُ . والخُلْبُ : اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب " إنْ " .

وأمَّا " لما " في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ " إنْ " الدَّاخلةُ في الخبر ، و " مَا " يجوز أن تكون موصولة بمعنى " الذي " واقعةً على ما يعقلُ ، كقوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، فأوقع " ما " على العاقل ، واللاَّمُ في " ليُوفِّينَّهُمْ " جوابُ قسم مضمر ، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ ، والتقديرُ : وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ ، ويجوز أن تكون " ما " نكرةً موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل " ما " والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم . والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل " إنْ " .

وقال بعضهم : اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم ، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب " ما " ، كما فصل بالألف بين النُّونين في " يَضْربانِّ " وبين الهمزتين ؛ نحو : آأنْت ، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ " ما " هنا زائدٌة جيء بها للفصل ، إصلاحاً للفظ ، وعبارةُ الفارسي{[19017]} مؤذنةٌ بهذا ، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام " إنْ " فقال : العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ ، والخبرُ هنا هو القسمُ ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه ، فلمَّا اجتمع اللاَّمان ، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصلوا بينهما ب " مَا " كما فصلُوا بين " إنَّ " واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال : واللاَّم في " لما " موطئةٌ للقسم ، و " ما " مزيدةٌ .

وقال أبُو شامة : واللاَّمُ في " لما " هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية . وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية ، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها ؛ نحو : إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ ، فلا التباسَ بالنَّافية ، فلا يقال : إنَّها فارقةٌ .

فتلخص في كلِّ من " اللاَّم " ، و " ما " ثلاثة أوجه :

أحدهما : في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِ على خبر " أن " .

الثاني : لام موطئة للقسم .

الثالث : أنها جواب القسم كررت تأكيداً . وأحدها في " ما " : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين . وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه :

أحدها : قولُ الفرَّاءِ{[19018]} وجماعة من نحاة البصرة ، والكوفة ، وهو أنَّ الأصل " لمِنْ مَا " بكسر الميم على أنَّها " مِنْ " الجارة ، دخلت على " ما " الموصولة ، أو الموصوفة ، كما تقرَّر ، أي : لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم ، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم : " ما " وجب إدغامها ؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت ، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال ، فخففت الكلمة بحذف إحداها ، فصار اللفظ كما ترى " لمَّا " قال نصر بن علي الشيرازي : " وصل " مِنْ " الجارَّة ب " مَا " فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فحذفت إحداهُنَّ فبقى " لمَّا " بالتشديد " . قال : و " ما " هنا بمعنى " مَنْ " وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ ، كما قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] أي : من طاب ، والمعنى : وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم .

وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال : " حذفت الميم المكسورة ، والتقدير : لمنْ خلق ليوفينَّهم " .

الثاني : قول المهدويّ ومكي : أن يكون الأصل : " لمَنْ مَا " بفتح ميم : " مَنْ " على أنَّها موصولة ، أو موصوفة ، و " ما " بعدها مزيدةٌ ، قال : فقلبت النون ميماً ، وأدغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى منهنَّ ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل : " لمَّا " قال مكي{[19019]} والتقديرُ : وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ " لمَنْ مَا " ثُم قلبت النُّونُ ميما ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال : وهذا القولُ ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ " مَنْ " لايجوزُ بعضها ؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين .

وقال النحاسُ{[19020]} : قال أبو إسحاق : هذا خطأ ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من " مَنْ " فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو : " قدم مالك " فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال : على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في " لمنْ مَا " ولمْ يحذف منها شيءٌ ، وذلك في قوله تعالى : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] ، فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ .

قال شهابُ الدين{[19021]} : اجتمع في " أمم ممَّن معك " ثمانيةُ ميماتٍ ، وذلك أنَّ " أمماً " فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يقلب ميماً لإدغامه في ميم " مِنْ " ومعنا نونان : نونُ " مِنْ " الجارة ، ونون " مَنْ " الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما ، ومعنا ميم " معك " فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين ، واثنتان نون ، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل " لمَّا " " لِمنْ ما " بقول الشَّاعر : [ الطويل ]

وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة *** عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ{[19022]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ{[19023]}

وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ : { وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم } [ الآية : 81 ] بتشديد " لمَّا " أنَّ الأصل : " لمن ما " ففعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته ، فالتفت إليه . وقال أبو شامة : وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] إنَّ أصله : لكن أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ ، وأدغمت النون في النُّون ، وكذا في قولهم : أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً . وفيما قاله نظرٌ ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة ، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف ، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني : الفرَّاء ، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من " لمَّا " في معنى واحد ، فقال : " ثُمَّ تُخفَّفُ ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ { والبَغْ يَعِظُكُم } [ النحل : 90 ] بحذف الياء عند الياء ؛ أنشدني الكسائيُّ : [ الوافر ] .

وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا *** لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا{[19024]}

فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات " .

قال شهابُ الدِّين{[19025]} : الأولى أن يقال : حذفت ياءُ الإضافة من " لَدَيّ " فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في " لَدَى " وهو مثلُ قراءةِ من قرأ { يا بُنَيْ } [ هود : 42 ] بالإسكان على ما سبق ، وأمَّا الياءُ من " يَتَبَاشرُونَ " فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة .

ثم قال الفرَّاءُ : [ الرجز ]

كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ{[19026]} *** . . .

يريد : إلى القادمِ ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف " إلى " حذفت لالتقاءِ الساكنينِ ، وذلك أنَّ ألف " إلى " ساكنةٌ ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة ، وهمزة الوصل حذفت درجاً ، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام " إلى " ولام التعريف ، فحذفت الثانية على رأيه ، والأولى حذف الأولى ؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف ، فلم يبق من حرف " إلى " غير الهمزة فاتصلت بلام " القادمِ " فبقيت الهمزة على كسرها ؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة " مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ " بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً ؛ لأنها همزة قطع .

قال أبُو شامة : وهذا قريبٌ من قولهم : " مِلْكذبِ " و " عَلْماءِ بنُو فُلانٍ " و " بَلْعَنْبَرِ " يريدون : من الكذبِ ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ ، وبنُو العَنْبرِ ، قال شهابُ الدين - رحمه الله- : يريدُ قوله : [ المنسرح ]

أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة *** غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ{[19027]}

المألكة : الرِّسالة ، وقول الآخر : [ الطويل ]

3029أ- فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ *** ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ{[19028]}

الغُرْلة القُلفة ، وقول الآخر : [ الخفيف ]

نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِنِّ في زيِّ ناسٍ *** فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ

يريد : مِن الجنِّ . قال التبريزي في شرح الحماسة : وهذا مقيسٌ ، وهو أن لام التعريف ، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها ؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن ؛ تقول : أكلتُ مالخُبْزِ ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ .

وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون " مِنْ " لا تحذف إلاَّ ضرورة ، وأنشد : [ المنسرح ]

. . . *** . . . ملْكَذب{[19029]}

الثالث : أنَّ أصلها " لمَا " بالتَّخفيف ، ثمَّ شددت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان ، قال الزَّجَّاج : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو : " رُبَ " في " رُبَّ " وقيل : في توجيهه : إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها ، كما قالوا : رأيتُ فرجًّا ، وقصبًّا ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميمُ هنا حشوٌ ؛ لأنَّ الألف بعدها ، إلاَّ أن يقال : إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر ؛ كقوله : [ الرجز ]

مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا{[19030]} *** . . .

يريد : القَصَبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ ، وضعَّف الحرف ؛ وكذلك قوله : [ الرجز ]

بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي *** كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ{[19031]}

شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح ؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف : " لمَّا " فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا .

الرابع : أنَّ أصلها " لمًّا " بالتنوين ثم بين منهُ " فَعْلى " فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث ، لم تصرفه ، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ ، وذلك كما قالوا في " تَتْرى " بالتنوين وعدمه ، وهو مأخوذ من قولك : لَمَمْتُهُ : أي جمعتُهُ ، والتقدير : وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ ، ويكون " جَميعاً " فيه معنى التوكيد ك " كل " ، ولا شكَّ أنَّ " جميعاً " يفيدُ معنى زائداً على " كل " عند بعضهم قال : ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ : " لمَّا " بالتنوين .

الخامس : أنَّ الأصل " لمًَّا " بالتنوين أيضاَ ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيد قال : لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف ، وسيأتي توجيه قراءة " لمَّا " بالتنوين .

وقال ابنُ الحاجبِ : " استعمالُ " لمَّا " في هذا المعنى بعيد ، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ ، فإن قيل : " لمَّا " فعلى من اللَّمِّ ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى " لمَّا " المُنْصَرف فهو أبعدُ ، إذ لا يعرفُ " لمَّا " فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال ، وهو خلافُ الإجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بمستقيم " .

السادس : أنَّ " لمَّا " زائدة كما تزاد " إلا " قالهُ أبو الفتح وغيره ، وهذا وجهٌ لا اعتبار به ، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضعيف أيضاً ، وهو أنَّ " إلاَّ " تأتي زائدة .

السابع : أنَّ " إنْ " نافيةٌ بمنزلة " ما " ، و " لمَّا " بمعنى " إلاّ " فهي كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] أي : ما كلُّ نفس إلاَّ عليها { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] أي : ما كل ذلك إلا متاع .

واعترض على هذا الوجه بأنَّ " إنْ " النافية لا تنصبُ الاسم بعدها ، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ " كلاًّ " منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ : وإن أرى كلاًّ ، وإن أعلمُ ونحوه ، قال : ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ ، ولذلك اختلف في مثل : [ الوافر ]

ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً *** يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ{[19032]}

هل هو منصوب بفعل مقدَّر ، أو نوِّن ضرورةً ؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ ، واختار يونس التنوين للضَّرورة ، وقدَّرهُ بعضهم بعد " لمَّا " من لفظ : " ليُوفِّينَّهُم " ، والتقدير : وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم . وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع ؛ لأنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يعمل فيما قبلها ، واستدل على مجيء : " لمَّا " بمعنى : " إلاَّ " بنصِّ الخليل وسيبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج . قال بعضهم : وهي لغةُ هذيل ، يقولون : سألتك بالله لمَّا فعلت أي : إلاَّ فعلت .

وأنكر الفرَّاء{[19033]} وأبو عبيدة ورود : " لمَّا " بمعنى : " إلاًّ " قال أبو عبيدٍ : " أمَّا من شدَّد " لمَّا " بتأويل " إلاَّ " فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول : قام القوم لمَّا أخاك ، يريدُ : إلاَّ أخاكَ ، وهذا غيرُ موجودٍ " وقال الفرَّاءُ{[19034]} : " وأمَّا من جعل " لمَّا " بمنزلة " إلاَّ " فهو وجهُ ضعيفٌ ، وقد قالت العربُ في اليمين : بالله لمَّا قمت عنا ، وإلاَّ قمت معنا ، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر ، ولا غير غيره ، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام : ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً " فأبو عبيد أنكر مجيء " لمَّاط بمعنى " إلاَّ " مُطلقاً ، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً ، وتبعه الفرسي في ذلك ، فقال- في تشديد " لمَّا " ههنا- : " لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى " إلاَّ " ، لأنَّ " لمَّا " هذه لا تفارق القسم " وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّم من نحو : نشدتك بالله لمَّا فعلت ، وأسألك بالله لمَّا فعلت . وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد : " لمَّا " في هذه الآية على تقدير أنَّ " لمَّا " بمعنى " إلاَّ " لا تختص بالقسم ما معناه : أنَّ تشديد : " لمَّا " ضعيفٌ سواء شدَّدت " إن " أم خفَّفت ، قال : " لأنَّه قد نُصِبَ بها " كلاً " ، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة ، وكما لا يَحْسُن : إنَّ زيداً إلاَّ منطلق ؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لمَّا منطلق ، لأنَّهُ بمعناه ، وإنَّما ساغ : نشدتُك الله إلاَّ فعلت ، ولمَّا فعلت ؛ لأنَّ معناه الطَّلب ، فكأنَّهُ قال : ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك ، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل { تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] ، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم : " شرُّ أهرُّ ذا ناب " أي : ما أهرَّه إلاَّ شرُّ ، قال : " وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب " .

وقال الكسائي : لا أعرف وجه التَّثقيل في " لمَّا " قال الفارسيُّ : ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال : اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا أعرفُ لها وجهاً .

الثامن : قال الزَّجَّاجُ : قال بعضهم قَوْلاً ، ولا يجوز غيره : أنَّ " لمَّا " في معنى " إلاَ " مثل { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى " إنْ زيدٌ لمنطلق : ما زيدٌ إلاَّ منطلق " ، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملها النَّصب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة ، والمعنى نفيٌ ب " إنْ " وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى " إلاَّ " و " لمَّا " بمعنى " إلاَّ " ، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز " إلاَّ " في مثل هذا التركيب ، فكيف يجُوزُ " لمَّا " التي بمعناها ؟ .

وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه :

أحدهما : أنَّها " إنَّ " المشددة على حالها ، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها ، وأمَّا " لمَّا " فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل " لَمِنْ مَا " بالكسر ، أو لَمَنْ مَا " بالفتح ، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا ، والقولُ بكونها بمعنى " إلاَّ " مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره .

الثاني : قال المازنيُّ : إنَّ " هي المخففة ثقلت : وهي نافيةٌ معنى " مَا " كما خففت " إنَّ " ومعناها المثقلة ، و " لمَّا " بمعنى " إلاَّ " وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به ، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ " إنْ " النافية ، وأيضاً ف " كلاًّ " بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا تنصبُ .

الثالث : أن " لما " هنا هي الجازمة للمضارع حذف مجزومها لفهم المعنى .

قال أبُو عمرو بنُ الحاجب- في أماليه- : " لمَّا " هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها ، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قولهم : " خرجتُ ولمَّا ، وسافرتُ ولمَّا " وهو سائغٌ فصيح ، ويكونُ المعنى : وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] ، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء ، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله : { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } قال : " وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا ، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن " ، قال : " والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ " .

قال شهابُ الديِّن : وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ " لمَّا " يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ ؛ قالوا : لأنَّها لنفي قَدْ فعل ، وقد يحذف بعدها الفعل ؛ كقوله : [ الكامل ]

أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنّ رِكَابنَا *** لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ{[19035]}

أي : وكأن قد زالت ، فكذلك منْفيهُ ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ ، على حذف مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب " معانِي الشِّعر " قول الشَّاعِر : [ الوافر ]

فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا *** فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ{[19036]}

قال : " قوله : " بَدْءاً " أي : سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم ، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا " .

قال : وقوله : " ولمَّا " أي : ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا ، فإنِّي سدتُ بعدهم ؛ كقول الآخر : [ الكامل ]

خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد *** ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ

ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْتُ إلاَّ بَعْدَمَا *** ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد{[19037]}

قال ونظير السُّكُوتِ على " لمَّا " دون فعلها السكُّوتُ على " قَدْ " دون فعلها في قول النابغة : [ الكامل ]

أفِدَ التًّرَحُّلُ . . . *** . . . {[19038]}

قال شهابُ الدِّين{[19039]} : وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة ، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد " لمَّا " سواءً شدَّد " إن " أو خففها .

وأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، والكسائي فواضحةٌ جدًّا ، فإنَّها " إنَّ " المشدَّدة عملت عملها ، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر " إنَّ " ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم ، وقد تقدَّم وقوعُ " ما " على العُقلاء ؟ِ مُقرَّرا ، ونظيرُ هذه الآية : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] غير أنَّ اللاَّم في " لمنْ " داخلةٌ على الاسم ، وفي " لمَّا " داخلة على الخبر . وقال بعضهم : " مَا " هذه زائدةٌ زيدت للفصل بين اللامين ، لام التَّوكيد ، ولام القسم ، وقيل : اللاَّم ُ في " لمَّا " موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] والمعنى : وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ .

وقال الفرَّاء{[19040]} -عند ذكر هذه الآية- : جَعَلَ " مَا " اسماً للنَّاس كما جاز { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ثم جعل اللاَّم التي فيها جواباً ل " إنَّ " وجعل اللاَّم التي في " ليُوفِّينَّهُمْ " لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين " مَا " وصلتها ، كما تقول : هذا من ليَذْهبنَّ ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه ، ومثله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] .

ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال : إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه ، نحو : إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ ؛ ومثله : [ الطويل ]

ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة *** لبَعْدُ لقَدْ لاقَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا{[19041]}

قال : أدخلها في " بَعْد " وليس بموضعها ، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ : " إنِّي ليحمد الله لصالحٌ " .

وقال الفارسيُّ{[19042]}- في توجيه القراءة- : " وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب " كُلاًّ " ب " إنَّ " وأدخل لام الابتداء في الخبر ، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى ، وهي التي يُتلقَّى بها القسم ، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين " إنَّ " واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل ، ومثله في الكلام : إن زيداً لينطلقنَّ " .

فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه .

قال المبردُ- وهي جرأةٌ منه- " هذا لحنٌ " يعين تشديد " لمَّا " ؛ قال : " لأنَّ العرب لا تقول : إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ " وهو مردودٌ عليه .

قال أبو حيان : وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو : إنَّ زيداً لمَّا خارج ، هذا المثالُ لحنٌ . قال شهابُ الدِّين : إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم ، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن بصدده ، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت " لمَّا " المشددة على خبر " إنَّ " فليس كذلك ، بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال .

وقال أبو جعفرٍ : القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه ، ولا " لمَّا لأضربنَّه " قال : وقال الكسائي : " اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً " وقد تقدم ذلك ، وتقدم أيضاً أنَّ الفارسي قال : كما لا يحسن : إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق ؛ لأنَّ " إلاَّ " إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لما منطلق ، لأنه بمعناه ، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت . . . إلى آخر كلامه . وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها ؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي .

وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه " وإنْ كلٌّ لمَّا " بتخفيف " إنْ " ورفع " كل " على أنَّها " إن " النافية " وكل " مبتدأ ، و " لمَّا " مشددة بمعنى " إلاَّ " ، و " ليُوفِّينَّهُم " جوابُ قسمٍ محذوف ، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ . وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] ومثله { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] ، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ " لمَّا " بمنزلةِ " إلاَّ " فقد تقدَّمت أدلته .

وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم " لمَّا " بالتشديد منونة ف " لمَّا " فيها مصدرٌ من قولهم : " لمَمْتُه- أي : جمعته - لمَّا " ومنه قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ثم في تخريجه وجهان :

أحدهما : ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكون منصوباً بقوله : " ليُوفِّينَّهُمْ " على حدِّ قولهم : قياماً لأقومنَّ ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ ، والتقديرُ : توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق .

والثاني : ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو : أن يكون وصفاً ل " كُلّ " وصفاً بالمصدر مبالغة ، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه " كل " نكرةً ، ليصحَّ وصفُ " كل " بالنَّكرةِ ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ " كل " ، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة ، ونظيره قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] فوقع " لمَّا " نعتاً ل " أكْلاً " وهو نكرةٌ .

قال أبو علي : ولا يجوز أن يكون حالاً ؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ . وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل " كلاًّ " كما يتبعها أجمعون ، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل " كُلاًّ " فإنه قال : " وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ " كقوله : " أكْلاً لمًّا " والمعنى : وإن كلاًّ ملمومين بمعنى : مجموعين ، كأنه قيل : وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] انتهى . لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأكيدٌ صناعيُّ ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد : أنَّهُ صفةٌ ل " كُلاًّ " ولذلك قدَّرهُ : بمجموعين ، وقد تقدَّم في بعض توجيهات " لمَّا " بالتَّشديد من غير تنوين ، أنَّ المنون أصلها ، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف ، وقد عُرف ما فيه وخبر " إنْ " على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه .

وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة ، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط .

وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف " إنْ " فيها نافية ، و " مِنْ " زائدةٌ في النَّفي ، و " كل " مبتدأ ، و " ليُوفِّينَّهُم " مع قسمه المقدَّر خبرها ، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصيرُ التقديرُ بدون " مِنْ " : " وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم " . والتنوين في " كلاً " عوضٌ من المضافِ إليه . قال الزمخشري{[19043]} : يعني : وإنَّ كُلُّهُم ، وإنَّ جميع المختلفين فه . وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ " لمًّا " بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ ، لا يقدَّر المضافُ إليه " كل " إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ .

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة تأكيدات ، فمنها :

التوكيد ب " إنَّ " وب " كُلّ " وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر " إنَّ " وبزيادة " ما " عل رأي ، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددة ، وإردافها بالجملة التي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي ، ووعداً صالحاً للطَّائع .

وقرأ العامَّةُ : " يَعْمَلُون " بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين ، وقرأ ابنُ{[19044]} هرمز " بِمَا تعملُونَ " بالخطابِ ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين ، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم .

فصل

معنى الآية : أنَّ من عجلت عقوبته ، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل ، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة ، فجمعت الآية الوعد ، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ ، وقوله : { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } توكيد للوعْدِ والوعيد ، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي ، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان .


[19006]:ينظر: الحجة 4/380 وإعراب القراءات السبع 1/294 وحجة القراءات 350 والإتحاف 2/135-136 والمحرر الوجيز 3/201 والبحر المحيط 5/266 وينظر: الدر المصون 4/135.
[19007]:ينظر: اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة 4/380، وإعراب القراءات السبع 1/294 وحجة القراءات ص351-352 والإتحاف 2/135، 136 وينظر: المحرر الوجيز 3/210 وينظر: أيضا الخلاف في البحر المحيط 5/266 وينظر: الدر المصون 4/135.
[19008]:ينظر: المحرر الوجيز 3/210، والبحر المحيط 5/266، والدر المصون 4/135.
[19009]:ينظر: الكشاف 2/432 والمحرر الوجيز 3/210 والبحر المحيط 5/266 والدر المصون 4/135.
[19010]:ينظر: المحرر الوجيز 3/210 والبحر المحيط 5/266 والدر المصون 4/135.
[19011]:ينظر: السابق.
[19012]:تقدم.
[19013]:ينظر: الدر المصون 4/136.
[19014]:تقدم.
[19015]:تقدم.
[19016]:تقدم.
[19017]:ينظر: الحجة 4/385.
[19018]:ينظر: معاني الفراء 2/29.
[19019]:ينظر: المشكل 1/145.
[19020]:ينظر: إعراب القرآن 2/115.
[19021]:ينظر: الدر المصون 4/137.
[19022]:تقدم.
[19023]:ينظر البيت في روح المعاني 12/150 والفراء 2/29 والقرطبي 9/70 والطبري 15/494 والدر المصون 4/138.
[19024]:ينظر البيت في معاني الفراء 2/92 وتفسير الطبري 15/495 وإبراز المعاني 5225 والدر المصون 4/138.
[19025]:ينظر: الدر المصون 4/138.
[19026]:ينظر البيت في معاني الفراء 2/92 وجامع البيان 15/495 واللسان (قدم) والدر المصون 4/138.
[19027]:تقدم.
[19028]:البيت للفرزدق. ينظر: شرح المفصل 10/155، والمقتضب 1/251، والكامل 3/399، وابن الشجري 2/4، وشرح الجمل لابن هشام 452. ويروى البيت هكذا: وما سبق القيسي من ضعف حيلة *** ولكن طغت علماء قلفة خالد.
[19029]:تقدم.
[19030]:البيت لرؤبة. ينظر: ملحقات ديوانه ص 169 وشرح شافية ابن الحاجب 2/318 ولربيعة بن صبح في شرح شواهد الإيضاح ص 264 ولأحداهما في شرح التصريح 2/346 والمقاصد النحوية 4/549 وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/353 وخزانة الأدب 6/138 وشرح الأشموني 3/781 وشرح ابن عقيل ص 673 وشرح المفصل 3/94، 139، 9/68، 8 والدر المصون 4/139.
[19031]:البيت لمنظور بن مرثد. ينظر: الكتاب 4/170 وشرح شواهد الشافية 4/246 وشرح المفصل لابن يعيش 9/68 والخصائص 2/259 واللسان (عهل) والدر المصون 4/139.
[19032]:تقدم.
[19033]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/29.
[19034]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/29.
[19035]:تقدم.
[19036]:تقدم.
[19037]:تقدم.
[19038]:تقدم.
[19039]:ينظر: الدر المصون 4/141-142.
[19040]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/28.
[19041]:ينظر البيت في رصف المباني ص241، 248 وسر صناعة الإعراب 1/393 ومعاني الفراء 2/30 وجامع البيان 16/498 والدر المصون 4/142.
[19042]:ينظر: الحجة 4/385.
[19043]:ينظر: الكشاف 2/432.
[19044]:ينظر: البحر المحيط 5/268 والدر المصون 4/143.