الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

قوله تعالى : " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم " أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم ، فكذلك قومك يا محمد . واختلف القراء في قراءة " وإن كلا لما " فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - " وإنْ كلا لَمَا " بالتخفيف ، على أنها " إن " المخففة من الثقيلة معملة ، وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه ، قال سيبويه : حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول : إن زيدا لمنطلق ، وأنشد قول الشاعر{[8874]} : كأنْ ظبيةً تعطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ

أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها ، والبصريون يجوزون تخفيف " إن " المشددة مع إعمالها ، وأنكر ذلك الكسائي وقال : ما أدري على أي شيء قرئ " وإن كلا " ! وزعم الفراء أنه نصب " كلا " في قراءة من خفف بقوله : " ليوفينهم " أي وإن ليوفينهم كلا ، وأنكر ذلك جميع النحويين ، وقالوا : هذا من كبير الغلط ؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه{[8875]} . وشدد الباقون " إن " ونصبوا بها " كلا " على أصلها . وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر " لما " بالتشديد . وخففها الباقون على معنى : وإن كلا ليوفينهم ، جعلوا " ما " صلة . وقيل : دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم ، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما ب " ما " . وقال الزجاج : لام " لما " لام " إن " و " ما " زائدة مؤكدة ، تقول : إن زيدا لمنطلق ، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك : إن الله لغفور رحيم ، وقوله : " إن في ذلك لذكرى{[8876]} " . واللام في " ليوفينهم " هي التي يتلقى بها القسم ، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة ، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما ب " ما " و " ما " زائدة مؤكدة ، وقال الفراء : " ما " بمعنى " من " كقوله : " وإن منكم لمن ليبطئن{[8877]} " [ النساء : 72 ] أي وإن كلا لمن ليوفينهم ، واللام في " ليوفينهم " للقسم ، وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج ، غير أن " ما " عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى " من " . وقيل : ليست بزائد ، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد ، وهي خبر " إن " و " ليوفينهم " جواب القسم ، التقدير : وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم . وقيل : " ما " بمعنى " من " كقوله : " فانكحوا{[8878]} ما طاب لكم من النساء " [ النساء : 3 ] أي من ، وهذا كله هو قول الفراء بعينه . وأما من شدد " لما " وقرأ " وإن كلا لما " بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل : إنه لحن ، حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز ، ولا يقال : إن زيدا إلا لأضربنه ، ولا لما لضربته . وقال الكسائي : الله أعلم بهذه القراءة ، وما أعرف لها وجها . وقال هو وأبو علي الفارسي : التشديد فيهما مشكل . قال النحاس وغيره : وللنحويين في ذلك أقوال : الأول : أن أصلها " لمن ما " فقلبت النون ميما ، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت " لما " و " ما " على هذا القول بمعنى " من " تقديره : وإن كلا لمن الذين ، كقولهم :

وإني لمَّا أصْدِرُ الأمرَ وجهَهُ *** إذا هو أعْيَا بالسَّبِيلِ مَصَادِرُه

وزيّف الزجاج هذا القول ، وقال : " من " اسم على حرفين فلا يجوز حذفه . الثاني : أن الأصل . لمن ما ، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات ، والتقدير : وإن كلا لمن خلق ليوفينهم . وقيل : " لما " مصدر " لم " وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف ، فهي على هذا كقوله : " وتأكلون التراث أكلا لما{[8879]} " [ الفجر : 19 ] أي جامعا للمال المأكول ، فالتقدير على هذا : وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لمًّا ، أي جامعة لأعمالهم جمعا ، فهو كقولك : قياما لأقومن . وقد قرأ الزهري " لما " بالتشديد والتنوين على هذا المعنى . الثالث : أن " لما " بمعنى " إلا " حكى أهل اللغة : سألتك بالله لما فعلت ، بمعنى إلا فعلت ، ومثله قوله تعالى : " إن كل نفس لما عليها حافظ " {[8880]} [ الطارق : 4 ] أي إلا عليها ، فمعنى الآية : ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم ، قال القشيري : وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله : " وإن كلا لما " حتى تقدر " إلا " ولا يقال : ذهب الناس لما زيد . الرابع : قال أبو عثمان المازني : الأصل وإن كلا لما بتخفيف " لما " ثم ثقلت كقوله{[8881]} :

لقد خَشِيتُ أن أَرَى جَدَبًا *** في عامِنَا ذا بعدَ ما أَخْصَبَّا

وقال أبو إسحاق الزجاج : هذا خطأ ، إنما يخفف المثقل ، ولا يثقل المخفف . الخامس : قال أبو عبيد القاسم بن سلام : يجوز أن يكون التشديد من قولهم : لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته ، ثم بني منه فعلى ، كما قرئ " ثم أرسلنا رسلنا تترى{[8882]} " [ المؤمنون : 44 ] بغير تنوين وبتنوين . فالألف على هذا للتأنيث ، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة ، قال أبو إسحاق : القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة ، وتكون بمعنى " ما " مثل : " إن كل نفس لما عليها حافظ " [ الطارق : 4 ] وكذا أيضا تشدد على أصلها ، وتكون بمعنى " ما " و " لما " بمعنى " إلا " حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين ، وأن " لما " يستعمل بمعنى " إلا " قلت : هذا القول الذي{[8883]} ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره ، وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له ، إلا أن ذلك القول صوابه{[8884]} " إن " فيه نافية ، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا{[8885]} وبقيت قراءتان ، قال أبو حاتم : وفي حرف أبي : " وإن كلا إلا ليوفينهم{[8886]} " [ هود : 111 ] وروي عن الأعمش " وإن كل لما " بتخفيف " إن " ورفع " كل " وبتشديد " لما " . قال النحاس : وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها " إن " بمعنى " ما " لا غير ، وتكون على التفسير ؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة . " إنه بما يعملون خبير " تهديد ووعيد .


[8874]:هو: ابن صريم اليشكري، وصدر البيت: ويوما توافينا بوجه مقسم يجوز نصب الظبية بكأن تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل، والخبر محذوف لعلم السامع. ويجوز جر الظبية على تقدير: كظبية، وأن زائدة مؤكدة.
[8875]:قال الطبري، وذلك أن العرب لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها.
[8876]:راجع ج 15 ص 245.
[8877]:راجع ج 5 ص 220، و ص 12.
[8878]:راجع ج 5 ص 220، و ص 12.
[8879]:راجع ج 20 ص 52.
[8880]:راجع ج 20 ص 3.
[8881]:البيت لرؤبة.
[8882]:راجع ج 12 ص 124.
[8883]:من و و ي.
[8884]:من ا و ج و و.
[8885]:وردت العبارة الآتية بإحدى النسخ تصويبا لعبارة القرطبي، ومذيلة بكلمة. (حاشية): (صواب ما ذكره الشيخ رحمه الله أن يقول: إلا أن هذا القول "إن" فيه نافية والقول المتقدم "إن" فيه مخففة من الثقيلة فافترقا).
[8886]:في ي: وإن كلا إلا ليوفينهم. وفي الشواذ: وإن كل بفتح الكاف وتخفيف اللام لما.