روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

{ وَإِنَّ كُلاًّ } التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة ، وقيل : إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضاً أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين .

وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة { لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ * أعمالهم } أي أجزية أعمالهم ، ولام { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم ، و { لَّمّاً } بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر . وحمزة ، وحفص . وأبي جعفر . وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد : إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما أدري ما وجه هذه القراءة ، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة : إن أصل { لَّمّاً } هذه لما منونا ، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته ، ولا يقال : إنها { لَّمّاً } المنوتة وقف عليها بالألف ، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان : إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لمّ ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها ، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاى الله تعالى .

وقيل : { لَّمّاً } المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئد فالاعراب م ستعرفه أيضاً إن شاء الله تعالى وهو بعيد جداً ، وقيل : إنها بمعنى إلا ، وإلا تقع زائدة كما في قوله

: حلفت يميناً غير ذي مثنوية *** يمين امرىء إلا بها غير آثم

فلا يبعدأن { لَّمّاً } التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا ، وعن المازني أن أن المشددة هن نافية ، و { لَّمّاً } بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تقثيل أنالنافية ، ولنصب كل والنافية لا تنصب ، وقال الحوفي : { ءانٍ } على ظاهرها . و { لَّمّاً } بمعنى إلا كما في قولك : نشدتك بالله إلا فعلت ، وضعفه أبو علي بأن { لَّمّاً } هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق ؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان : إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت : إن زيداً إلا ضربت لم يكن تركيباً عربياً ؛ وقيل : إن { لَّمّاً } هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميماً للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فخذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان ، وإلى هذا ذهب المهدوي ، وقال الفراء .

وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله ، وقد جاء هذا الأصل في قوله

: وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم

واللام على هذين الوجهين قيل : موطئة للقسم ، ونقل عن الفارسي وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفطاً أو تقديراً لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط ، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جواباً للقسم مطلقاً ، وقيل : إنها اللام الداخلة في خبر إن ، ومن موصولاً أو موصوفاً على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة ، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك ، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن ، الجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضاً لكن لما ، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك ، قال في البحر : وهذان الوجهان ضعيفان جداً ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غر المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال ، وفي تفسير القاضي . وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميماً فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، وفيه أيضاً ما فيه . ففي المعنى إن حذف هذه الميم استقالا لم يثبت انتهى ، وقال الدماميني : كيف يستقيم تعليل الحدف بالاستقثال وقد اجتمعت في قوله تعالى : { على * أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] ثماني ميمات انتهى ، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر

: وإني لما أصدر الأمر وجهه *** إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وف الكلام حدف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله

: إذا قلت : سيروا إن ليلى لعلها *** جرى دون ليلى مائل القرن أعضب

أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وو كما ترى ، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل عن مثلها : كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن { لَّمّاً } هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها ، والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلاً عنه أنه قال : { لَّمّاً } هذه هي الجازمة حدف فعلها للدلالة عليه ، وقد ثبت الحذف في قولهم : خرجت ولما .

وسافرت ولما ونحوه . وهو سائغ فصيح فيكون التقدير ولما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ونجازاتهم ، ثم قال : وما أعرف وجهاً أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة ن مثله لم يقع في القرآن انتهى ، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها ، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون ، وذلك بمعنزل عن أن يراد وهو ظاهر ، وهذا وجه النظر عناه ابن هشام في قوله معترضاً على ابن الحاجب : وفي هذا التقدير نظر .

قال الجلبي : وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير من أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل : إنه دال عليه وليس بذاك ، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء ، وقرأ نافع . وابن كثير أن . ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتباراً للأصل في لعمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال : أخبرني الثقة أنه سمع يعض العرب يقول : إن عمراً لمنطلق .

وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل ، وتأول الآية بجعل { كَلاَّ } منصوباً بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء ، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين ، وفي الارتشاف إن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المسكورة لا مهملة ولا معملة ، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية ، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق ، و { كَلاَّ } اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن ، والجملة القسمية وجوابها صلة ، وإلى هذا ذهب الفراء ، واختار الطبري في اللام مذهبه ، وفي { مَا } كونها نكرة موصوفة ، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله ، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه ؛ وجعل الجملة القسمية خبراً وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع ، وقرأ أبوز بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما ، وقرأ الكسائي . وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبراً بما ذكر في تخريج القراءتين قبل ، وقرأ أبى .

والحسن بخلاف عنه . وأبان بن تغلب ، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد ، وخرجت على أن ان نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره ، و { لَّمّاً } بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم ، وأنكر أبو عبيدة مجيء { لَّمّاً } بمعنى إلا في كلام العرب ، وقل الفراء : إن جعلها هن بمعنى الأوجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين بالله : لما قمت عنا وإلا قمت عنا ، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر ؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيداً على معنى إلا زيداً ولا التفات إلى إنكارهما ، والقراءة المتواترة في { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } [ يس : 32 ] { إن كل نفس لما عليها حافظ } [ الطارق : 4 ] تثبت ما أنكراه .

وقد نص الخليل . وسيبويه . والكسائي على مجيء ذلك ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئاً فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبه .

وقرأ الزهري . وسليمان بن أرقم { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا } بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها ، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم : لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } عند أبي البقاء وضعفه .

وقال أبو علي : إنها صفة لكل ويقدر مضافاً إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة ، وكان المصدر حينئد بمعنى اسم المفعول ، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل : وآن كلا جميعاً كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد .

وقال ابن جنى : إنها منصوبة بليوفينهم على حد قولهم : قياماف لا أقومن ، والتقدير توفية جامعة لاعمالهم { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } * وَخَبر * { إِنَّ في ذَلِكَ } جملة القيم وجوابه ، وروي أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة .

وقرأ الأعمس نحو ذلك إلا أنه أسقط من هو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر ، قيل : وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه ، والجملة قيل : توكيد للوعد والوعيد فانه سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئد تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيراً فخير وإن شراً فشر .

/ وقرأ ابن هرمز { *وتعلمون } على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .