معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (111)

وقوله : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّما لَيُوَفِّيَنَّهُمْ 111 } ،

قرأت القراء بتشديد ( لَما ) وتخفيفِها ، وتشديد إن وتخفيفها ، فمنْ قال : { وَإنَّ كُلاَّ لَما } ، جعل ( ما ) اسما للناس ، كما قال : { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء } ، ثم جَعَل اللام التي فيها جَواباً لإنّ ، وجَعَل اللام التي في ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) لا ما دخلت على نيّة يمين فيها : فيما بين ما وصلتها ؛ كما تقول : هذا مَن لَيذهبنَّ ، وعندي ما لَغَيْرُهُ خير منه . ومثله : { وإنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ ليُبَطِّئَن } ، وأَما مَنِ شدّد ( لما ) فإنه - والله أعلم - أَراد : لِمن ما لَيُوَفِّينَّهم ، فلما اجتمعت ثلاث ميمات حذَف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت في صَاحبتها ؛ كما قال الشاعر :

وإني لَمِما أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ *** إذا هو أعيا بالسبيل مصادرُه

ثم يخفّف كما قرأ بعض القراء : ( وَالبَغْيِ يَعِظُكْمْ ) ، بحذف الياء ( عند الياء ) ، أنشدني الكسائي :

وأَشمتَّ العُداة بنا فأضحَوا * لدَيَّ تَبَاشَرُونَ بما لِقينا

معناه : ( لديَّ ) يتباشرون ، فحذف لاجتماع الياءات ومثله :

كأنّ مِن آخرها القادِمِ *** مَخْرِمَ نجدٍ فارعَ المخارم

أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام . وأَما مَن جعل ( لَما ) بمنزلة إلاَّ فإنه وجه لا نعرفه . وقد قالت العرب : بالله لَما قمت عنا ، وإلاَّ قمت عنا ، فأما في الاستثناء فلم يقولوه في شعر ولا غيره ؛ أَلا ترى أنَّ ذلك لو جَاز لسمعتَ في الكلام : ذهب الناسَ لَما زيدا .

وأَما الذين خفّفوا ( إن ) فإنهم نصبوا كلا بِ ( لَيُوفَّينَّهم ) . وقالوا : كأنا قلنا : وإنْ لَيوَفِّينَّهم كُلاَّ . وهو وجه لا أشتهيه ؛ لأن اللام إنما يقع الفعل الذي بعدها على شيء قبله ، فلو رفعت كلّ لصلح ذلك ، كما يصلح أَن تقول : إنْ زيد لقائم ، ولا يصلح أن تقول : إنْ زيداً لأَضربُ ؛ لأن تأويلها كقولك : ما زيداً إلاّ أضرب ، فهذا خطأ في إلاّ وفي اللام .

وقرأ الزُهريّ : ( وإنَّ كُلاًّ لَما ليُوَفِّيَنَّهم ) ، ينوّنها ، فجعل اللام شديداً ، كما قال : { وَتَأْكُلُون التُرَاثَ أَكْلاً لَما } ، فيكون في الكلام بمنزلة قولك : وانّ كلا حقّا ليوفينّهم ، وإن كلا شديدا ليوفينّهم . وإذا عَجَّلت العرب باللام في غير موضعها أعادوها إليه ، كقولك : إنَّ زيدا لإليك لمحسن ، كان موقع اللام في المحسن ، فلما أدخلت في إليك أُعيدت في المحسن ، ومثله قول الشاعر :

ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزّة *** لَبَعْدُ لقد لاقيتُ لا بدّ مَصْرعَا

أَدخلها في ( بَعد ) وليسَ بموضعها ، ومثله قول أبى الجرّاح : إني لبحمد الله لصالح .