1- سورة " الملك " من السور المكية الخالصة ، ومن السور ذات الأسماء المتعددة ، قال الآلوسي : وتسمى " تبارك " و " المانعة " و " المنجية " و " المجادلة " .
فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " المانعة " .
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر .
وفي رواية عن ابن عباس أنه قال : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال : بلى . قال : اقرأ سورة " تبارك الذي بيده الملك " وعلمها أهلك ، وجميع ولدك . . . فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها .
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة ، منها –سوى ما تقدم- ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن سورة من كتاب الله ، ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل حتى غفر له ، [ تبارك الذي بيده الملك . . . ]( {[1]} ) .
وكان نزولها بعد سورة " المؤمنون " وقبل سورة " الحاقة " . . وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية في المصحف المكي . . وثلاثون آية في غيره .
2- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وعن مظاهر فضله ورحمته بعباده ، وعن بديع خلقه في هذا الكون ، وعن أحوال الكافرين ، وأحوال المؤمنين يوم القيامة ، وعن وجوب التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض . . وعن الحجج الباهرة التي لقنها –سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم لكي يقذف بها وجوه المبطلين ، والتي تبدأ في بضع آيات بقوله –تعالى- [ قل ] .
ومن ذلك قوله –سبحانه- : [ قل هو الرحمن آمنا به ، وعليه توكلنا ، فستعلمون من هو في ضلال مبين . قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ] .
لفظ { تَبَارَكَ } فعل ماض لا ينصرف . وهو مأخوذ من البركة ، بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة أى : كثر خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته .
أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شئ ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
والملك - بضم الميم وسكون اللام - : السلطان والقدرة ونفاذ الأمر .
أى : جل شأن الله - تعالى - وكثر خيره وإحسانه ، وثبت فضله على جميع خلقه ، فهو - سبحانه - الذى بيده وقدرته التمكن والتصرف فى كل شئ على حسب ما يريد ويرضى ، وهو - عز وجل - الذى لا يعجزه أمر فى الأرض أو فى السماء .
واختار - سبحانه - الفعل " تبارك " للدلالة على المبالغة فى وفرة العظمة والعطاء ، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته . . كما فى قولهم : تواصل الخير ، إذا تتابع بكثرة مع دوامه . .
والتعريف فى لفظ " الملك " للجنس . وتقديم المسند وهو " بيده " على المسند إليه ، لإِفادة الاختصاص . أى : بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة ، والأمر والنهى . .
قال الإِمام الرازى : وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكا ومالكا ، تقول بيد فلان الأمر والنهى ، والحل والعقد . وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام قدرته ، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة . .
وجملة { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معطوفة على قوله { بِيَدِهِ الملك } الذى هو صلة الموصول ، وذلك لإِفادة التعميم بعد التخصيص ، لأن الجملة الأولى وهى { الذي بِيَدِهِ الملك } أفادت عموم تصرفه فى سائر الموجودات ، وهذه أفادت عموم تصرفه - سبحانه - فى سائر الموجودات والمعدومات ، إذ بيده - سبحانه - إعدام الموجود ، وإيجاد المعدوم .
قال أحمد : حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عباس الجُشَمي ، عن أبي هُرَيرة ، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن سورة في القرآن ثلاثين آية شَفَعت لصاحبها حتى غُفر له : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " .
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث شعبة ، به{[1]} وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وقد روى الطبراني والحافظ الضياء المقدسي ، من طريق سَلام بن مسكين{[2]} عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سورة في القرآن خَاصَمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " {[3]} .
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا يحيى بن مالك النكري ، عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك " تَبَارَكَ " حتى ختمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر " {[4]} ثم قال : " هذا حديث غريب من هذا الوجه . وفي الباب عن أبي هريرة . ثم روى الترمذي أيضا من طريق ليث بن أبي سليم ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ " الم تَنزيلُ " [ سورة السجدة ] ، و " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " . وقال ليث عن طاوس : يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة{[5]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحسين بن عجلان{[6]} الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي " يعني : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " {[7]} .
هذا حديث غريب ، وإبراهيم ضعيف ، وقد تقدم مثله في سورة " يس " وقد روى هذا الحديث عبد بن حُمَيد في مسنده بأبسط من هذا ، فقال :
حدثنا إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال : بلى . قال اقرأ : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك ، فإنها المنجية والمجادلة ، تجادل - أو تخاصم - يوم القيامة عند ربها لقارئها ، وتطلب له أن [ ينجيه ]{[8]} من عذاب النار ، وينجي بها صاحبها من عذاب القبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لوددتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي " {[9]} .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد ، أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه ، أحد الثقات الذين روى عنهم البخاري ومسلم ، ولكن في غير الصحيحين ، وروى عنه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة . وعليه تفقه في مذهب أبي عُبَيد بن حَرْبَويه ، وخلق سواهم ، ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن رجلا ممن كان قبلكم مات ، وليس معه شيء من كتاب الله إلا " تَبَارَكَ " ، فلما وضع في حفرته أتاه المَلَك فثارت السورة في وجهه ، فقال لها : إنك من كتاب الله ، وأنا أكره مساءتك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا ، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له . فتنطلق إلى الرب فتقول : يا رب ، إن فلانًا عَمَد إليَّ من بين كتابك فتَعَلَّمني وتلاني أفتحرقه{[10]} أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه ؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك . فيقول : ألا أراك غضبت ؟ فتقول : وحُقّ لي أن أغضب . فيقول : اذهبي فقد وهبته لك ، وشَفّعتك فيه . قال : فتجيء فيخرج الملك ، فيخرج كاسف البال لم يَحْلَ منه بشيء . قال : فتجيء فتضع فاها على فيه ، فتقول مرحبا بهذا الفم ، فربما تلاني ، ومرحبا بهذا الصدر ، فربما وعاني ، ومرحبا بهاتين القدمين ، فربما قامتا بي . وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه " . قال : فلما حَدّث بهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حُرّ ولا عبد ، إلا تعلمها ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية{[11]} .
قلت : وهذا حديث منكر جدا ، وفرات بن السائب هذا ضعفه الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو حاتم ، والدارقطني وغير واحد . وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر ، عن الزهري ، من قوله مختصرا . وروى البيهقي في كتاب " إثبات عذاب القبر " عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا ما يشهد لهذا{[12]} وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الأحكام الكبرى ، ولله الحمد {[13]} .
يمجد تعالى نفسه الكريمة ، ويخبر أنه بيده الملك ، أي : هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله . ولهذا قال : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } .
يعني بقوله تعالى ذكره : تَبارَكَ : تعاظم وتعالى الّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ بيده مُلك الدنيا والاَخرة وسُلطانهما نافذ فيهما أمره وقضاؤه وَهُوَ على كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه من فعله مانع ، ولا يحول بينه وبينه عجز .