سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون
هذا الجزء كله من السور المكية . كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية . ولكل منهما طابع مميز ، وطعم خاص . . وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة " المدثر " ومطلع سورة " المزمل " . كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة " القلم " . وبحوالي عشر سنوات كسورة " الجن " التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ، حيث أوذي من ثقيف . ثم صرف الله إليه نفرا من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن ، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء . وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين . وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة .
والقرآن المكي يعالج - في الغالب - إنشاء العقيدة . في الله وفي الوحي ، وفي اليوم الآخر . وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه . والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب ، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب ، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب ، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص . وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة ، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء .
والقرآن المدني يعالج - في الغالب - تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية ؛ وحمل النفوس على الإضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة ، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء . وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي .
وهذه السورة الأولى - سورة تبارك - تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود . تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود ، إلى عوالم في السماوات ، وإلى حياة في الآخرة . وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير ، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها . وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم ، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة ، في هذه الأرض . كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين .
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها ؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك ، وتنفض الغبار وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون ، وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترى هناك يد الله المبدعة ، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله . وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع . وتحولت من الأرض - على سعتها - إلى السماء . ومن الظواهر إلى الحقائق . ومن الجمود إلى الحركة . مع حركة القدر ، وحركة الحياة ، وحركة الأحياء .
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران . ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر الله وبلائه ، ومن حكمة الله وتدبيره : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وهو العزيز الغفور ) .
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته ، ولا تلتفت لما فيه من كمال . ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف : ( الذي خلق سبع سماوات طباقا . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ? ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير . . ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين . . ) .
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف . ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين . وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار : وأعتدنا لهم عذاب السعير . وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير . إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . تكاد تميز من الغيظ . كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير ? قالوا : بلى ! قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا : ما نزل الله من شيء ؛ إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير . فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ! .
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه ، ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه . وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة . فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين ، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء ؛ وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير . وأسروا قولكم أو أجهروا به ، إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ? هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور . أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ? أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ? فستعلمون كيف نذير ) . .
والطير . إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا . ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر ، وترى قدرة الله الذي صور وقدر : ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن ، إنه بكل شيء بصير ) .
وهم آمنون في دارهم ، مطمئنون إلى مكانهم ، طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره . ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي ، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم ، تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه : ( أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور ) .
والرزق الذي تناله أيديهم ، إنه في حسهم قريب الأسباب ، وهي بينهم تنافس وغلاب . ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء ، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون : ( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور ) . .
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون . فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا ، في صورة متحركة موحية : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ? ) .
وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك ؛ ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب . فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم ، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر ، وتدبر الغاية من هذه البداية : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، قليلا ما تشكرون . قل : هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون . .
وهم يكذبون بالبعث والحشر ، ويسألون عن موعده . فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون : ( ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل إنما العلم عند الله ، وإنما أنا نذير مبين . فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ! ) . .
وهم يتربصون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود ! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب ، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب : ( قل : أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? قل : هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ) .
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون ، والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون ! ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ? ) . .
إنها حركة . حركة في الحواس ، وفي الحس ، وفي التفكير ، وفي الشعور .
ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها الجامع الموحي:
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها . .
فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما . وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين . وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها . وكان العلم بالسر والجهر . وكان جعل الأرض ذلولا للبشر . وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين . وكان إمساك الطير في السماء . وكان القهر والاستعلاء . وكان الرزق كما يشاء . وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة . وكان الذرء في الأرض والحشر . وكان الاختصاص بعلم الآخرة . وكان عذاب الكافرين . وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد . .
فكل حقائق السورة وموضوعاتها ، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير : ( تبارك الذي بيده الملك ، وهو على كل شيء قدير ) ! !
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق ، وتتدفق بلا توقف ، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل ، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع ! ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل :
( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ) . .
هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة الله ومضاعفتها ، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة . وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك ، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية . وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود ، ويعمر بها قلب كل موجود . وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم ، من الكتاب المكنون ، إلى الكون المعلوم .
( تبارك الذي بيده الملك ) . . فهو المالك له ، المهيمن عليه ، القابض على ناصيته ، المتصرف فيه . . وهي حقيقة . حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير ؛ وتخليه من التوجه أو الإعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك ؛ كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد ، والسيد الفريد !
( وهو على كل شيء قدير ) . . فلا يعجزه شيء ، ولا يفوته شيء ، ولا يحول دون إرادته شيء ، ولا يحد مشيئته شيء . يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره ؛ لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود . . وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال ! فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال . . والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود . فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار . فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود . ويكلون لقدرة الله كل شيء بلا قيود . وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود .