مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الملك

وتسمى ( المنجية ) : لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر ، وعن ابن عباس أنه كان يسميها ( المجادلة ) لأنها تجادل عن قارئها في القبر .

{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } .

أما قوله : { تبارك } فقد فسرناه في أول سورة الفرقان ، وأما قوله : { بيده الملك } فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكا ومالكا ، كما يقال : بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك . قال صاحب «الكشاف » : بيده الملك على كل موجود ، وهو على كل ما لم يوجد من الممكنات قدير ، وقوله : { وهو على كل شيء قدير } فيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء ، فقال قوله : { إن الله على كل شيء قدير } يقتضي كون مقدوره شيئا ، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، لا جائز أن يكون موجودا ، لأنه لو كان قادرا على الموجود ، لكان إما أن يكون قادرا على إيجاده وهو محال ، لأن إيجاد الموجود محال ، وإما أن يكون قادرا على إعدامه وهو محال ، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل ، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير ، والعدم نفي محض ، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة ، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود ، فوجب أن يكون معدوما ، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئا ، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئا بهذه الآية فقالوا : لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء ، والله قادر على كل شيء . فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادرا على الجوهر من حيث إنه جوهر ، وعلى السواد من حيث هو سواد ، وإذا كان كذلك كان كون الجوهر جوهرا ، والسواد سوادا واقعا بالفاعل ، والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدما على فعله ، فإذا وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهرا ، أو السواد سوادا ، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئا وهو المطلوب ، ثم أجابوا عن شبهة الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل ، ولئن سلمنا ذلك ، لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئا ، لأجل أنه سيصير شيئا ، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه يجب المصير إليه ، لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء .

المسألة الثانية : زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل ، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة ، ومحمود الخوارزمي ، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل ، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء ، والله على كل شيء قدير ، فهو إذا قادر على الموجودات ، فإما أن يكون قادرا على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال ، أو على إعدامها ، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل .

المسألة الثالثة : زعم الكعبي : أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد ، وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره ، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء ، والله على كل شيء قدير ، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين .

المسألة الرابعة : زعم أصحابنا : أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى ، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة ، وأبطلوا القول بكون العبد موجدا لأفعال نفسه ، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء ، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر ، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدورا له وذلك محال ، لأن ما سوى الله ممكن محدث ، فيكون أضعف قوة من قدرة الله ، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى .

المسألة الخامسة : هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد ، لأنا لو قدرنا إلها ثانيا ، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر ، فإن لم يقدر البتة على إيجاد شيء أصلا لم يكن إلها ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئا ، فيلزم كونه مقدورا للإله الأول لقوله : { وهو على كل شيء قدير } فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال ، لأنه إذا كان واحد منهما مستقلا بالإيجاد ، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجا إليهما ، وغنيا عنهما ، وذلك محال .

المسألة السادسة : احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال : لو كان شيئا لكان قادرا على نفسه لقوله : { وهو على كل شيء قدير } لكن كونه قادرا على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئا ، وقال أصحابنا لما دل قوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد } على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذا هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع .

المسألة السابعة : زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل والعبث والظلم ، وزعم النظام أنه غير قادر عليه ، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء { والله على كل شيء قدير } فوجب كونه تعالى قادرا عليها .

المسألة الثامنة : احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة ، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزا عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه ، إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمرا موجودا لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشارا إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزا عن البعض في الحس ، وأن يكون مقصدا للمتحرك ، فإذن لو كان الله تعالى حاصلا في حيز لكان ذلك الحيز موجودا ، ولو كان ذلك الحيز موجودا لكان شيئا ولكان مقدور الله لقوله تعالى : { وهو على كل شيء قدير } وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده ، فيلزم أن يكون الله متقدما في الوجود على تحقق ذلك الحيز ، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققا من غير حيز وله جهة أصلا والأزلي لا يزول البتة ، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلا وأبدا .

المسألة التاسعة : أنه تعالى قال أولا : { بيده الملك } ثم قال بعده : { وهو على كل شيء قدير } وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله ، لكان ذلك مشعرا بالعجز والضعف ، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق ، فدل ذلك ، على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادرا على جميع الأشياء .

المسألة العاشرة : القدير مبالغة في القادر ، فلما كان قديرا على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه البتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته ، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعا له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعا له من الفعل ، فلا يكون كاملا في القدرة ، فلا يكون قديرا ، والله أعلم .