( سورة الملك مكية ، وآياتها 30 آية ، نزلت بعد سورة الطور ) .
وسورة الملك لها من اسمها أكبر نصيب ، إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا ، وقدرته العالية ، وحكمته السامية ، فهو الخالق الرزاق المهيمن ، المدبر الحكيم المبدع ، الذي أبدع كل شيء خلقه .
وتستلفت السورة نظر الإنسان إلى خلق الأرض ، وخلق السماء والطير والرزق ، والسمع والأبصار ، والموت والحياة ، والزرع والثمار ، والماء والهواء والفضاء .
وتحث القلب على التفكير والتأمل ، والنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه إلى التعرف على قدرة الله وجلاله ، وسابغ فضله على الناس أجمعين .
مطلع السورة مطلع جامع يهز القلب هزا ، وينبه إلى بركات الله ونعمه وقدرته :
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . ( الملك : 1 ) .
وعن حقيقة الملك والقدرة ، تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة ، والتي نبهت القلوب إليها .
( فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما ، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين ، وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها ، وكان العلم بالسر والجهر ، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر ، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين ، وكان إمساك الطير في السماء ، وكان القهر والاستعلاء ، وكان الرزق كما يشاء ، وكان الإنشاء ، وهبة السمع والأبصار والأفئدة ، وكان الخلق في الأرض والحشر ، وكان الاختصاص بعلم الآخرة ، وكان عذاب الكافرين ، وكان الماء الذي به الحياة ، فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير )i .
1- تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه بقوله : تبارك الذي بيده الملك . . . ( الملك : 1 ) . فهو كثير البركة تفيض بركته على عباده ، وهو المالك المهيمن على الخلق ، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو على كل شيء قدير .
2- ومن آثار قدرته أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها ، وخلق الحياة وهي تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة ، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب ، حتى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الآخرة .
3- يوجه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع ، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة ، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب . وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيباّ ؟
4- تأمل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه ، فلن تجد فيه إلا الإبداع والتنسيق ، والضبط والإحكام .
5- لقد رفع الله السماء الدنيا ، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة السماء ، وهداية للمسافرين ، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت ، والمنفرد والمجتمع ، ولكل نجم مكان ومسار وطريق خاص ، وهذه النجوم منها شهب تنزل على الشياطين الذين يحاولون استراق السمع ، والتنصت على كلام الملائكة ، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم .
6- ومن كفر بالله فإنه يستحق عذاب جهنم ، وبئس هذا المصير .
7- إن جهنم تتميز غيظا على من عصى الله ، وتغلي وتفور حنقا على الكفار .
8- كلما ألقى جماعة من الكفار في النار ، سألهم خزنة جهنم : ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم ؟
9- ويجيب الكفار بأن الرسول قد جاءنا ، ولكن العمى أضلنا فكذبنا بالرسول ، وقلنا : ما أنزل الله من وحي ولا رسالة ، واتهمنا الرسول بالضلال والكذب .
10- ولو حكمنا عقلنا وسمعنا لاهتدينا إلى الحق وآمنا ، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب .
11- لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخرا في غير وقته ، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنم ، حيث لا يؤمنون إلا بعد فوات الأوان .
12- إن المؤمن يحس برقابة الله عليه ، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه ، أو يخشى ربه وهو في خفية عن الأعين ، غائب عن أعين الناس . وله مغفرة وأجر كبير جزاء عمله .
13- ما يفعله العبد مكشوف أما الله ، وسيان أجهرتم بأقوالكم أم أسررتم بها فالله مطلع عليها .
14- ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها ؟ وهو سبحانه عالم بخفيات الأمور ودقائقها ، وهو اللطيف الخبير .
15- ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذللها وأودعها أسباب الحياة .
فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة ، ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا .
وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة . فنسبة الأكسجين 21% ونسبة الأزوت أو النتروجين 78% والبقية من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى . وهذه النسب هي اللازمة لقيام الحياة على الأرض .
وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر ، وبعد الأرض عن الشمس والقمر ، كل ذلك بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض .
إن الحيوان يستنشق الهواء فيمتص الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون ، والنباتات تمتص ثاني أكسيد الكربون ، وبكيمياء سحرية يغذى النبات نفسه ، ويخرج الأكسجين الذي نتنفسه وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ، ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة ، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا ، ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات أو مات الإنسان .
والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها ، والله يتفضل على الإنسان بتخسير الأرض والنبات والفضاء والهواء له : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه . . . ( الملك : 15 ) . وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب .
16 ، 17- هذه الأرض الذلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح تتحول –إذا أراد الله- إلى دابة جامحة فيها الزلازل والبراكين ، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان وتدمره : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء . . . ( الرعد : 13 ) .
18- ولقد كذب الكفار السابقون رسلهم ، فعاقبهم الله أشد العقوبة ، لقد غرق قوم نوح ، وأهلكت ثمود بصاعقة ، وأهلكت عاد بريح عاتية ، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم ( البحر الأحمر ) .
إن الإنسان قوى بالقدر الذي وهبه الله من القوة ، ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وما يصيب الإنسان منها مقدر مرسوم ، إنا كل شيء خلقناه بقدر . ( القمر : 49 ) .
19- فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض ، وتبسط أجنحتها وتقبضها ، في حركة ممتعة تدعو إلى التأمل والتدبر ، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر ، في قبضه وبسطه ، والله سبحانه ييسر له أمره ، ويهيئ وينسق ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة ، رعاية الخبير البصير .
20- من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه ؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمان إلا الرحمان ؟ إن الكافر في غرور ، يظن أنه آمن بعيد عن بطش الله به ، وما هو ببعيد .
21- من يرزق البشر إن أمسك الله الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك الحياة عنهم ؟ إن بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجج ونفور ، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها .
22- ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق ، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم ، ثم تستفهم أيهما أهدى ؟ .
23 – لقد خلق الله الناس ، وجعل لهم السمع ليسمعوا ، والأبصار ليروا ، والأفئدة ليتفكروا في جليل قدرة الله ، ولكن الإنسان قلما يفكر في شكر نعمة الله عليه ، وامتثال أمره واجتناب نواهيه ، والاعتراف له بالفضل والمنة .
( ويذكر العلم أن حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية ، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن ثم ينتقل إلى التيه داخل الأذن ، والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة ، متصلة بعصب السمع في الرأس ، وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية ، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة ، دقة وعظمة تحير الألباب .
ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار ، وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية )ii .
أما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا ، وهي قوة الإدراك والتمييز ، والمعرفة التي استخلف الله بها الإنسان في هذا الملك العريض .
24- إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض ، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، وكما بدأكم يعيدكم ، وإليه تحشرون وترجعون .
25- ويسألون سؤال الشاك المستريب عن يوم الجزاء والحساب .
26- قل علم هذا اليوم عند الله ، وما علي إلا البلاغ والبيان ، أما العلم فعند صاحب العلم ، الواحد بلا شريك .
27- ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة ، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء ، سيظهر الحزن والاستياء عليهم ، وتؤنبهم الملائكة ، وتقول لهم : هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه . والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا ، بمفاجأة شعورية تصويرية ، تقف المكذب والشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .
28- روى أن كفار مكة كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته ، فقال لهم القرآن : سواء أهلك النبي حسب أمانيهم ، أو رحمه الله ومن معه ، فلن يغير ذلك من وضعهم ، لأن عذابا أليما ينتظرهم ، ولن تجيرهم الأصنام ، ولن يجيرهم من الرحمان إلا الإيمان .
29- إن المؤمنين في قربى من الرحمان ، فهم يؤمنون به ويتوكلون عليه ، وهم موصولون بالله ، منتسبون إليه . وسيتبين للكافرين من الضال ومن المهتدي ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة .
30- أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ، ولم تصل إليه الدلاء ، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق ، تشربونه عذبا زلالا .
وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب ، تذكره بفضل الله الذي أجرى الماء ، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة ، ولا ينقذ الإنسان من الله إلا الله ، قال تعالى : ففرّوا إلى الله . . . ( الذاريات : 50 ) .
معظم مقصود السورة : بيان استحقاق الله الملك ، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار ، والنظر إلى السماوات للعبرة ، واشتعال النجوم والكواكب للزينة ، وما أعد للمنكرين من العذاب والعقوبة ، وما وعد به المتقون من الثواب والكرامة ، وتأخير العذاب عن المستحقين بالفضل والرحمة ، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة ، واتصال الرزق إلى الخليقة بالنوال والمنة ، وبيان حال أهل الضلالة والهداية ، وتعجيل الكفار بمجيء يوم القيامة ، وتهديد المشركين بزوال النعمة بقوله : فمن يأتيكم بماء معين . ( الملك : 30 ) .
لسورة تبارك في القرآن والسنة سبعة أسماء :
( سورة الملك لمفتتحها . والمنجية لأنها تنجي قارئها من العذاب . والمانعة لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر . والدافعة لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الآخرة عن قارئها . والشافعة لأنها تشفع في القيامة لقارئها . والمجادلة لأنها تجادل منكرا ونكيرا ، فتناظرهما كيلا يؤذيا قارئها ، والمخلصة لأنها تخاصم زبانية جهنم ، لئلا يكون لهم يد على قارئها )iii .
وفي شأن السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك )iv .
{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير 1 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 2 الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور 3 ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير 4 ولقد زيّنّّّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير5 }
تبارك : تعالى وتمجّد ، أو تكاثر خيره .
الذي بيده الملك : له الأمر والنهي والسلطان .
1-تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .
تعاظمت بركة الله تعالى ، فهو سبحانه مالك الملك ، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ، بيده الخلق والأمر ، كل يوم هو في شأن ، يضع رفيعا ويرفع وضيعا ، يفقر غنيّا ويغني فقيرا ، يبتلي معافى ويعافي مبتلى ، يخفض أقواما ويرفع آخرين .
هو سبحانه القادر على كلّ شيء ، له القدرة التامة ، والتصرف الكامل في كلّ الأمور ، من غير منازع ولا مدافع .