قوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } ، الذين أمد بهم المؤمنين .
قوله تعالى : { أني معكم } ، بالعون والنصرة .
قوله تعالى : { فثبتوا الذين آمنوا } ، أي : قووا قلوبهم ، قيل : ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم ، أي : ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين ، وقال مقاتل : أي : بشروهم بالنصر ، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم .
قوله تعالى : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ، قال عطاء : يريد الخوف من أوليائي .
قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } ، قيل : هذا خطاب مع المؤمنين ، وقيل : هذا خطاب مع الملائكة ، وهو متصل بقوله { فثبتوا الذين آمنوا } ، وقوله : { فوق الأعناق } ، قال عكرمة : يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، وقال الضحاك : معناه فاضربوا الأعناق ، وفوق صلة ، كما قال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } [ محمد :4 ] وقيل : معناه فاضربوا على الأعناق ، فوق بمعنى : على .
قوله تعالى : { واضربوا منهم كل بنان } ، قال عطية : يعني كل مفصل ، وقال ابن عباس ، وابن جريج ، والضحاك : يعني الأطراف ، والبنان جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين . قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم الله عز وجل .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا زهير بن حرب ، ثنا عمرو بن يونس الحنفي ، ثنا عكرمة بن عمار ، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ، ثنا عبد الله بن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذا سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه ، وشق وجهه لضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري ، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة " . فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وروي عن أبي داود المازني ، وكان شهد بدراً ، قال : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه ، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لقد رأيتنا يوم بدر ، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك ، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف ، وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً ، وكنت رجلاً ضعيفاً ، وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم ، فو الله إني لجالس أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب ، يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب : إلي يا ابن أخي فعندك الخبر ، فجلس إليه والناس قيام عليه ، قال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال : لا شيء ، والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ، ويأسروننا كيف شاؤوا ، وايم الله ، مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ، لا والله ما تليق شيئاً ، ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك والله الملائكة ، قال : فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، فساورته ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفاً ، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمود الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربةً فقلت به رأسه شجة منكرة ، وقالت : تستضعفه ؟ فقام مولياً ذليلاً ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته .
وروى مقسم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر ، كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً ، وكان العباس رجلاً جسيماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر ، كيف أسرت العباس ؟ قال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم .
ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها اثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال - سبحانه - : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } .
والبنان : - كما يقول القرطبى - واحده بنانه . وهى هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء . . وهو - أي البنان - مشتق من قولهم أبَّن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يُعتَملُ به ما يكون للإِقامة والحياة . وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء . .
وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإِنسان . .
والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر { أَنِّي مَعَكُمْ } أي بعونى وتأييدى { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أي فقووا قلوبهم ، واملأوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا نياتهم في القتال حتى غايتهم إعلا كلمة الله .
قال الآلوسى : والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال . وكان ذلك هنا - في قوله - بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم ، فقد أخرج البيهقى في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشئ ، والله معكم . كروا عليهم .
وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم . وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة .
وقوله - تعالى - : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } بشارة عظيمة للمؤمنين .
أى : سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم - أيها المؤمنون - ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم .
والرعب : انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيباً إذا قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد .
وقوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة .
والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة . أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى : على وهو قول أبى عبيدة .
ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق : أعالى الأعناق التي هى المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس .
والمراد بالبنان - كما سبق أن بينا - الأصابع أو مطلق الأطراف .
والمعنى : لقد أعطيتكم - أيها المؤمنون - من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى واعداءكم بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم . واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إذْ يُوحي رَبّكَ إلى الَملائِكَةِ أنّي مَعَكُمْ" أنصركم، "فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا "يقول: قوّوا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوّهم من المشركين. وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم، وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم...
وأما ابن إسحاق، فإنه قال...: "فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا" أي فآزروا الذين آمنوا.
"سأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ" يقول تعالى ذكره: سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم، وأملأها فَرَقا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فَوْقَ الأعْناقِ"؛
فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاضربوا الرؤوس...واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي فوق الأعناق: الرءوس، وقالوا: وغير جائز أن تقول: فوق الأعناق، فيكون معناه: الأعناق. قالوا: ولو جاز كان أن يقال تحت الأعناق، فيكون معناه: الأعناق. قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلب معاني الكلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق. وقالوا: «على» و «فوق» معناهما متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين معلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل، وقوله: "فَوْقَ الأعْناقِ" محتمل أن يكون مرادا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادا به فوق جلدة الأعناق، فيكون معناه: على الأعناق وإذا احتمل ذلك صحّ قول من قال: معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملاً ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض إلاّ بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة تدلّ على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرا.
وأما قوله: "وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ" فإن معناه: واضربوا أيها المؤمنون من عدوّكم كلّ طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم. والبنان: جمع بنانة، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الوحي كان يسمى وحيا لسرعة قذفه في القلوب ووقوعه فيها...
وقوله تعالى: (إني معكم) قيل: (أني معكم) في النصر والمعونة ودفع العدو عنكم. أو يقول (إني معكم) في التوفيق. ويحتمل أن يكون قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) أي أخبروا [في الأصل: أخبر] المؤمنين (أني معكم) لما ذكرنا من النصر والمعونة والدفع. وقوله تعالى (فتبتوا الذين آمنوا) أمر ملائكته أن يثبتوا الذين آمنوا بالنصر والأمن بعد ما كانوا خائفين...؛ لما أجابوا ربهم مع ضعف أبدانهم وقلة عددهم أبدلهم الله مكان الخوف لهم أمنا، ومكان الضعف القوة والنصر، ومكان الذل العز، وأبدل المشركين مكان الأمن لهم خوفا ومكان العز الذل ومكان الكثرة الضعف والفشل. فذلك، والله أعلم معنى قوله (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
وقوله (فتبتوا الذين آمنوا). وجائز أن يكون نفس نزول الملائكة تثبيتهم؛ لأنهم سبب تثبيتهم، أو يثبتهم من غير أن علم المؤمنون بهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِذْ يُوحِى...}... المعنى: أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله: {سَأُلْقِى...
فاضربوا} يجوز أن يكون تفسيراً لقوله: {أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ} ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم، واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة...
{فَوْقَ الاعناق} أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس...
والبنان: الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوي، لأن الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ويجوز أن يكون قوله {سَأُلْقِى} إلى قوله: {كُلَّ بَنَانٍ} عقيب قوله: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قولي: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي: {سَأُلْقِى} فالضاربون على هذا هم المؤمنون.
قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق}... أمر للملائكة متصل بقوله تعالى: {فثبتوا}. وقيل: بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح...
واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم، وفي قوله: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}... المراد إما القتل، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا} الظرف هنا غير بدل من إذ، في الآيات التي قبله ولا متعلق بما تعلقت به بل هو متعلق بيثبت والمعنى أنه يثبت الأقدام بالمطر في وقت الكفاح الذي يوحي فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبتوا به الأنفس بملابستهم لها واتصالهم بها وإلهامها تذكر وعد الله لرسوله وكونه لا يخلف الميعاد، والمعية في قوله: (إني معكم) معية الإعانة كقوله: {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
{سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الرعب بوزن فعل: اسم مصدر من رعبه (وتضم عينه) وبه قرأ ابن عامر والكسائي ومعناه: الخوف الذي يملأ القلب، ولما فيه من معنى الملء يقال: رعبت الحوض أو الإناء أي ملأته، ورعب السيل الوادي. وقيل أصل معناه القطع إذ يقال رعبت السنام ورعبته ترعيبا إذا قطعته طولا، وفسره الراغب بما يجمع بين المعنيين فقال: الرعب الانقطاع من امتلاء الخوف اه. ويقال رعبته (من باب فتح) وأرعبته، وأبلغ منه تعبير التنزيل بإلقاء الرعب وبقذف الرعب في القلب لما فيه من الإشعار بأنه يصب في القلوب دفعة واحدة.
{فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} أي فاضربوا الهام وافلقوا الرؤوس – أو اضربوا على الأعناق- واقطعوا الأيدي ذات البنان التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره وهو متعين في حال هجوم الفارس من الكفار على الراجل من المسلمين فإذا يسبق هذا إلى قطع يده قطع ذاك رأسه. والبنان جمع بنانة وهو أطراف الأصابع...
مقتضى السياق أن وحي الله للملائكة قد تم بأمره إياهم بتثبيت المؤمنين كما يدل عليه الحصر في قوله عن إمداد الملائكة {وما جعله الله إلا بشرى} الخ وقوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الخ بدء كلام خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله من الآيات وقيل إن هذا مما أوحي إلى الملائكة، وتأوله هؤلاء بأنه تعالى أمرهم بأن يلقوا هذا المعنى في قلوب المؤمنين بالإلهام كما كان الشيطان يخوفهم ويلقي في قلوبهم ضده بالوسواس. ولا يرد على الأول ما قيل من أنه لا يصح إلا إذا كان الخطاب قد وجه إلى المؤمنين قبل القتال والسورة قد نزلت بعده- لأن نزول السورة بنظمها وترتيبها بعده لا ينافي حصول معانيها قبله وفي أثنائه، فإن البشارة بالإمداد بالملائكة وما وليه قد حصل قبل القتال وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ثم ذكرهم الله تعالى به بإنزال السورة برمتها تذكيرا بمننه، ولولا هذا لم تكن للبشارة تلك الفائدة، والخطاب في السياق كله موجه إلى المؤمنين وإنما ذكر فيها وحيه تعالى للملائكة بما ذكر عرضا. وقد غفل عن هذا المعنى الألوسي تبعا لغيره وادعى أن الآية ظاهرة في قتال الملائكة، وقد وردت روايات ضعيفة تدل على قتال الملائكة لم يعبأ الإمام ابن جرير بشيء منها ولم يجعلها حقيقة أن تذكروا ولو لترجيح غيرها عليها.
وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وبعض الروايات الغريبة التي يردها العقل، ولا يثبتها ما له قيمة من النقل فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر وما كان له من الفوائد لم يكن كافيا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين حتى كان ألف- وقيل آلاف- من الملائكة يقاتلونهم معهم فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف؟ وبماذا استحقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه (وما يدريك لعل الله عز وجل أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؟ رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا- فهل تعارض هذه البينات النقلية والعقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل. ولم يذكر ابن كثير منها إلا قول الربيع بن أنس:"كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به" ومن أين جاء الربيع بهذه الدعوى؟ ومن ذا الذي رؤي من القتلى بهذه الصفة؟ وكم عدد من قتل الملائكة من السبعين وعدد من قتل أهل بدر غير من سموا وقالوا قتلهم فلان وفلان؟ كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق حتى أنها خالفت نص القرآن نفسه، فالله تعالى يقول في إمداد الملائكة {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم} وهذه الروايات تقول بل جعلها مقاتلة وأن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصرة المتعددة!
إلا أن في هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الألوسي وغيره بغير سند وابن عباس لم يحضر عزوة بدر لأنه كان صغيرا فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة وقد روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم.. أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة! إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة؛ ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني.. وقد أوحى إليهم ربهم: أني معكم. وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا، ففعلوا -لأنهم يفعلون ما يؤمرون- ولكننا لا ندري كيف فعلوا. وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كل بنان. ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها، فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة، ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله.. ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا. فكان ذلك، ووعده الحق، ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان. فالله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو يحول بين المرء وقلبه؛ وهو أقرب إليه من حبل الوريد.. إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة. وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة.. ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول.. وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة، لهي أنفع وأجدى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتثبيت المؤمنين: إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاماً وتثبيتاً، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع، وإزالة للاضطراب الشيطاني، وإنما يكون خيراً إذا كان جارياً على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطراً كاذباً، وإلاّ صار غروراً، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوقى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل. ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعْب} لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة. وأسند إلقاء الرعْب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقةٌ الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته، وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة، فإن خوارق العادات قد تصدر من القُوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة، لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين، فهو مبارك أيضاً، وإنما كان إلقاء الرعْب في قلوب المشركين خارقَ عادة، لأن أسباب ضده قائمة، وهي وفرة عددهم وعُددهم وإقدامُهم على الخروج إلى المسلمين، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير...