قوله عز وجل : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأنكروا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحمية : الأنفة ، يقال : فلان ذو حمية إذا كان ذا غضب وأنفة . قال مقاتل : قال أهل مكة : قد قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا ، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللات والعزى لا يدخلونها علينا ، فهذه ( حمية الجاهلية ) ، التي دخلت قلوبهم . { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فيعصوا الله في قتالهم ، { وألزمهم كلمة التقوى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، والسدي ، وابن زيد ، وأكثر المفسرين : كلمة التقوى لا إله إلا الله . وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً . وقال علي وابن عمر : " كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم { وكانوا أحق بها } من كفار مكة ، { وأهلها } أي : وكانوا أهلها في علم الله ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير . { وكان الله بكل شيء عليماً }
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم فقال : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } .
والظرف { إِذْ } منصوب بفعل مقدر . والحمية : الأنفة والتكبر والغرور والتعالى بغير حق . يقال : حَمِىَ أنفه من الشئ - كرضى - إذا غضب منه ، وأعرض عنه .
أى : واذكر - أيها العاقل - وقت أن تمسك الكافرون وقيدوا أنفسهم بالحمية الباطلة ، التى هى حمية المِلّة الجاهلية ، حيث منعوا المسلمين من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام ، وحيث منعوا الهدى من أن يبلغ محله ، وحيث أبوا أن يكتب فى الصحيفة التى عقدت بينهم وبين المسلمين ، بسم الله الرحمن الرحيم ، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا كله من حميتهم الجاهلية التى لا أساس لها من علم أو خلق أو دين .
وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى . . . } معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين حال الفريقين ، مقابلة تتجلى فيها رعايته - سبحانه - للمؤمنين ، وغضبه على الكافرين . أى : هذا هو حال الكافرين ، رسخت الجهالات فى قلوبهم حتى صرفتهم عن سبيل الرشد ، أما حال المؤمنين فأنهم قابلوا تصرفات هؤلاء الكافرين بالاحتقار والازدراء ومبايعة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - على الموت إذا لزم الأمر ذلك .
فأنزل الله - تعالى - طمأنينته وسكينته على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب أصحابه ، حيث لم يجعلهم يقابلون سفاهات المشركين بسفاهات مثلها . .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } أى : وجعلهم ملتزمين بما تقتضيه كلمة التقوى ، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوا الله ، من أناة وسكون وثبات ووقار وخلق كريم وإخلاص فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله .
{ وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أى : وكان المؤمنين أحق بهذه الكلمة من الكفار ، وكانوا أهلا لها دون الكفار ، لأن المؤمنين استجابوا للحق . أما الكافرون فقد أنفوا منه ، وتطاولوا عليه ، بمقضتى حميتهم الجاهلية . . { وَكَانَ } - سبحانه - وما زال { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } لا يخفى عليه أمر ، ولا يغيب عن علمه شئ ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى ألوانا من المقابلات التى تدل على مدح الله - تعالى - للمؤمنين ، وعلى احتقاره للكافرين .
فقد عبر - سبحانه - فى جانب الكافرين بكلمة جعل التى تشعر بأن الكافرين كأنهم قد ألقوا هذه الحمية الجاهلية فى قلوبهم إلقاء بدون تعقل أو تبدر ، بينما عبر فى جانب المؤمنين بكلمة أنزل التى تشعر كأن السكينة كانت فى خزائنه - تعالى - ثم أنزلها بعد ذلك على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب المؤمنين ، ليزدادوا إيمانا على إيمانهم . .
ونرى الفاعل لجعل هو الذين كفروا ، بينما الفاعل لأنزل هو الله - عز وجل - .
ونرى المفعول لجعل هو الحمية ، وهى كلمة مشتعلة منفرة ، وقد كررها - سبحانه - ليزداد العقلاء نفورا منها . . ونرى المفعول لأنزل هو السكينة وهى كلمة فيها ما فيها من الوقار والسكون والثبات والطمأنينة .
ونرى الحمية قد أضيفت إلى الجاهلية ، بينما السكينة أضيفت إلى الله - تعالى - .
ونرى أن الله - تعالى - قد أضاف كل ذلك مدحا عظيما لعباده المؤمنين حيث ألزمهم كلمة التقوى ، وجعلهم بها وأهلا لها دون أعدائهم الذين آثروا الغى على الرشد ، والباطل على الحق . . وفى ذلك ما فيه من الثناء على المؤمنين والتحقير للكافرين .
ويمضي في وصف الذين كفروا . وصف نفوسهم من الداخل . بعد تسجيل صفتهم وعملهم الظاهر :
( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) . .
حمية لا لعقيدة ولا لمنهج . إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت . الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ، يمنعونهم من المسجد الحرام ، ويحبسون الهدي الذي ساقوه ، أن يبلغ محله الذي ينحر فيه . مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة . كي لا تقول العرب ، إنه دخلها عليهم عنوة . ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين ؛ وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ؛ وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام ! وهي الحمية التي بدت في تجبيههم لكل من أشار عليهم - أول الأمر - بخطة مسالمة ، وعاب عليهم صد محمد ومن معه عن بيت الله الحرام . وهي كذلك التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم ، ولصفة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أثناء الكتابة . وهي كلها تنبع من تلك الجاهلية المتعجرفة المتعنتة بغير حق .
وقد جعل الله الحمية في نفوسهم على هذا النحو الجاهلي ، لما يعلمه في نفوسهم من جفوة عن الحق والخضوع له . فأما المؤمنون فحماهم من هذه الحمية . وأحل محلها السكينة ، والتقوى :
( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . وألزمهم كلمة التقوى . وكانوا أحق بها وأهلها ) . .
والسكينة الوقورة الهادئة ، كالتقوى المتحرجة المتواضعة كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصول بربه ، الساكن بهذه الصلة . المطمئن بما فيه من ثقة . المراقب لربه في كل خالجة وكل حركة ، فلا يتبطر ولا يطغى ؛ ولا يغضب لذاته ، إنما يغضب لربه ودينه . فإذا أمر أن يسكن ويهدأ خشع وأطاع . في رضى وطمأنينة .
ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى ، وكانوا أهلها . وهذا ثناء آخر من ربهم عليهم . إلى جانب الامتنان عليهم بما أنزل على قلوبهم من سكينة ، وما أودع فيها من تقوى . فهم قد استحقوها في ميزان الله ، وبشهادته ؛ وهو تكريم بعد تكريم ، صادر عن علم وتقدير :
والعامل في قوله : { إذ جعل } قوله تعالى : { لعذبنا } ويحتمل أن يكون المعنى : أذكر إذ جعلنا .
و : { الحمية } التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد ، قال الزهري : وحمية سهيل{[10427]} ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم ، وكذلك منعوا أن يثبت : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي : «امح واكتب » هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى «حمية جاهلية » ، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محارباً لعذرهم في حميتهم ، وإنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فكانت حميتهم جاهلية صرفاً . والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره .
و : { كلمة التقوى } قال الجمهور : هي لا إله إلا الله ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن أبي طالب : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال متقاربة حسان ، لأن هذه الكلمة تقي النار ، فهي { كلمة التقوى } .
وقال الزهري عن المسور ومروان : { كلمة التقوى } المشار إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم { أحق بها }
قال القاضي أبو محمد : ولا إله إلا الله أحق باسم : { كلمة التقوى } . من : بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي مصحف ابن مسعود : «وكانوا أهلها وأحق بها » . والمعنى : كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل { أحق بها } من اليهود والنصارى في الدنيا ، وقيل أهلها في الآخرة بالثواب .
وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليماً } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ، فيروى أنه لما انعقد ، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة ، وامتزجوا ، وعلت دعوة الإسلام ، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب ، وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {إذ جعل الذين كفروا} من أهل مكة {في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عام الحديبية في ذي القعدة معتمرا، ومعه الهدى، فقال كفار مكة: قتل آباءنا وإخواننا، ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا ونساءنا، وتقول العرب: إنه دخل على رغم آنافنا، والله لا يدخلها أبدا علينا، فتلك الحمية التي في قلوبهم.
{فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم {كلمة التقوى} يعني كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله {وكانوا أحق بها} من كفار مكة {و} كانوا {وأهلها} في علم الله عز وجل {وكان الله بكل شيء عليما} بأنهم كانوا أهل التوحيد في علم الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ "حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك... و«إذ» من قوله: "إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا" من صلة قوله: لعذّبنا. وتأويل الكلام: لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، والحمية فعيلة من قول القائل: حمى فلان أنفه حمية ومحمية... يحمي: يمنع. وقال "حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ" لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به، ولا أحد من رسله.
وقوله: "فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين، إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية، ومنعوهم من الطواف بالبيت، وأبوا أن يكتبوا في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد رسول الله. "وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى" يقال: ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار، وأليم العذاب... عن عليّ رضي الله عنه، في قوله: "وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى" قال: لا إله إلاّ الله، والله أكبر...
وقال آخرون: بل: هي كلمة التقوى، الإخلاص... وقال آخرون: هي قوله: بسم الله الرحمن الرحيم...
وقال آخرون: هي قول لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير...
وقوله: "وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها" يقول تعالى ذكره: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون "أحقّ" بكلمة التقوى من المشركين "وأهلها": يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دون المشركين... وقوله: "وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما" يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله بكل شيء ذا علم، لا يخفى عليه شيء هو كائن، ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم، لم يأذن لكم بدخولكم مكة في سفرتكم هذه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} يحتمل هذا وجوها:
أحدها: ألزمهم كلمة بها يتّقون النار.
والثالث: يحتمل قوله: {وألزمهم} إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبدا إلى يوم القيامة، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، والأنفة من أن يعبدوا غيرها...
الثاني: أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة، ومنعهم له من دخول مكة...
ويحتمل ثالثاً: هو الاقتداء بآبائهم، وألا يخالفوا لهم عادة، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم...
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ} يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد...
قال في حق الكافر (جعل) وقال في حق المؤمن (أنزل) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها.
قال الحمية ثم أضافها بقوله {حمية الجاهلية} لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحا، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية. وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار، فقال {سكينته} اكتفاء بحسن الإضافة...
{وألزمهم كلمة التقوى} فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إله إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك، وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه، وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول {وألزمهم} يحتمل أن يكون عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعا يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى، ويحتمل أن يكون عائدا إلى المؤمنين فحسب...
. {وكانوا أحق بها وأهلها} معناه أنهم كانوا عند الله أكرم الناس فألزموا تقواه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال سعيد بن جبير: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذ} أي حين {جعل الذين كفروا} أي ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم {في قلوبهم} أي قلوب أنفسهم {الحمية} أي المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار...
{حمية الجاهلية} التي مدارها مطلق المنع أي سواء كان بحق أو بباطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع...
{فأنزل الله} أي الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم {سكينته} أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله و الروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالاً كائناً {على رسوله} صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته، ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه {وعلى المؤمنين} رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه- صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة الفتح وحماهم عن همزات الشياطين، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع {وألزمهم} أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف، لا إلزام إهانة وتعنيف {كلمة التقوى} وهي كل قول أو فعل ناشئ عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق...
{وكانوا} أي جبلة وطبعاً. ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى: {أحق بها} أي كلمة التقوى من الكفار والأعراب وغيرهم من جميع الخلق...
{وأهلها} أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها... {وكان الله} أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً *} أي محيط العلم الدقيق والجلي...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{سكينته} أي: الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه إنزالاً كافياً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل: حميت على فلان أي غضبت عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي في وصف الذين كفروا. وصف نفوسهم من الداخل. بعد تسجيل صفتهم وعملهم الظاهر:
(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)..
حمية لا لعقيدة ولا لمنهج. إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت. الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن معه، يمنعونهم من المسجد الحرام، ويحبسون الهدي الذي ساقوه، أن يبلغ محله الذي ينحر فيه. مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة. كي لا تقول العرب، إنه دخلها عليهم عنوة. ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين؛ وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته؛ وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام! وهي الحمية التي بدت في تجبيههم لكل من أشار عليهم -أول الأمر- بخطة مسالمة، وعاب عليهم صد محمد ومن معه عن بيت الله الحرام. وهي كذلك التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم، ولصفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أثناء الكتابة. وهي كلها تنبع من تلك الجاهلية المتعجرفة المتعنتة بغير حق.
وقد جعل الله الحمية في نفوسهم على هذا النحو الجاهلي، لما يعلمه في نفوسهم من جفوة عن الحق والخضوع له. فأما المؤمنون فحماهم من هذه الحمية. وأحل محلها السكينة، والتقوى: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. وألزمهم كلمة التقوى. وكانوا أحق بها وأهلها)..
والسكينة الوقورة الهادئة، كالتقوى المتحرجة المتواضعة كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصول بربه، الساكن بهذه الصلة. المطمئن بما فيه من ثقة. المراقب لربه في كل خالجة وكل حركة، فلا يتبطر ولا يطغى؛ ولا يغضب لذاته، إنما يغضب لربه ودينه. فإذا أمر أن يسكن ويهدأ خشع وأطاع. في رضى وطمأنينة.
ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى، وكانوا أهلها. وهذا ثناء آخر من ربهم عليهم. إلى جانب الامتنان عليهم بما أنزل على قلوبهم من سكينة، وما أودع فيها من تقوى. فهم قد استحقوها في ميزان الله، وبشهادته؛ وهو تكريم بعد تكريم، صادر عن علم وتقدير: