اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (26)

قوله ( تعالى ){[51824]} : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } العامل في » إذْ «إِما » لَعَذَّبْنَا «أو » صَدُّوكُمْ «أو » اذْكُر «فيكون مفعولاً به{[51825]} .

قال ابن الخطيب في إذ : يحتمل أن يكون ظرفاً ، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له ، ويحتمل أن يكون مفعولاً به ، فإن قلنا : إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور ، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان :

أحدهما : هو قوله تعالى : { وَصَدُّوكُمْ } أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم{[51826]} الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام .

وثانيهما : المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين{[51827]} .

فإن قلنا : إنه غير مذكور ففيه وجهان :

أحدهما : حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية .

وثانيهما : أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية . وعلى هذا فقوله : «فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ » تفسير لذلك الإحسان . وإن قلنا : إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك الوقت كقولك : اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه . وعلى هذا يكون «إذْ » ظرفاً للفعل المضاف إليه{[51828]} .

قوله : «فِي قُلُوبِهِمْ » يجوز أن يتعلق ب «جَعَلَ » على أنها بمعنى «أَلْقَى » ، فتتعدى لواحد ؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر .

قوله : «حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ » بدل من «الحمية » قبلها ، والحمية الأنَفَةُ من الشيء ، وأنشدوا للمتلمس :

4496 أَلاَ إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ *** كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا{[51829]}

وهي المنع ، ووزنها فَعِيلَةٌ ، وهي مصدر ، يقال : حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه ( حَمِيَّةً ){[51830]} .

( فصل{[51831]}

المعنى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله . قال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللاتِ والعُزَّى لا يدخلونها علينا . فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم ) .

قله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم . قال ابن الخطيب : دخول الفاء في قوله : { فَأَنزَلَ الله } يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إِذْ » ظرف لفعل مقدر كأنه قال : أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا . «فأنزل » تفسير لذلك الإحسان ، كما يقال{[51832]} : «أَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام . ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول : أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ{[51833]} .

( قوله{[51834]} : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين : كلمة التقوى لا إله إلا الله .

وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً . وقال عليٌّ وابنُ عمر : كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم . وقيل : هي الوفاء بالعَهْد{[51835]} ) .

قوله : { وكانوا أَحَقَّ بِهَا } الضمير في «كانوا » يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر ، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار ، وقيل : يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ{[51836]} .

( فصل{[51837]}

قال البغوي : وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى ، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير{[51838]} ، قال ابن الخطيب : قوله : «أحق بها » يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً ( ما{[51839]} ) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل ، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل ، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك .

الثاني : أن يكون لا للتفضيل كما في قوله { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] ، { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ؛ إذ لا خير في غيره { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }{[51840]} ) .


[51824]:زيادة من أ.
[51825]:قاله أبو حيان في بحره 8/99.
[51826]:في ب قلوبكم. تحريف.
[51827]:الواقع أن قبل هذا كلام قد نسيه الناسخ واله أعلم فقد قال الرازي: وثانيها: قوله تعالى: {لعذبنا الذين كفروا منهم} أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ثم يقول: والثاني أقرب لفظا وشدة مناسبته معنى، لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد. والمؤمنون الخ. انظر الرازي 28/101 و102.
[51828]:المرجع السابق.
[51829]:من الطويل له ورواه المؤلف كرواية أبي حيان في البحر 8/99 وفي القرطبي: كذي الأنف و "يكشما". والكشم: قطع الأنف باستئصال. وانظر: القرطبي 16/288 وشاهده واضح.
[51830]:نقله القرطبي في الجامع 16/288.
[51831]:ما بين القوسين كله سقط من ب.
[51832]:في ب قال وما هكذا في الرازي.
[51833]:الرازي 28/102.
[51834]:ما بين القوسين أيضا كله سقط من نسخة ب.
[51835]:وانظر هذه الأقوال مجتمعة في القرطبي 16/289 والبحر 8/99.
[51836]:نقله أبو حيان في البحر 8/99 و100 واختار القرطبي عوده على المؤمنين.
[51837]:ما بين القوسين كله أيضا ساقط من نسخة ب.
[51838]:معالم التنزيل له 6/212 و213.
[51839]:زيادة على الرازي من المؤلف.
[51840]:بالمعنى من الرازي 28/103.