البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (26)

{ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لا ذكر مضمرة .

والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس :

إلا أنني منهم وعرضي عرضهم *** كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما

وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو .

وقال ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا وغيرها .

وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبداً ؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غوين وإن ترشد غزية أرشد

وحمية : بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان ، فتوقروا وحلموا ؛ و { كلمة التقوى } : لا إله إلا الله .

روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن ميمون ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد .

وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .

وقال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما : لا إله إلا الله ، والله أكبر .

وقال أبو هريرة ، وعطاء الخراساني : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي كلمة أهل التقوى .

وقال المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها .

وقيل : قولهم سمعاً وطاعة .

والظاهر أن الضمير في : { وكانوا } عائد على المؤمنين ، والمفضل عليهم محذوف ، أي { أحق بها } من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم .

وقيل : من اليهود والنصارى ، وهذه الأحقية هي في الدنيا .

وقيل : أحق بها في علم الله تعالى .

وقيل : { وأهلها } في الآخرة بالثواب .

وقيل : الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله ، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق .

{ وكان الله بكل شيء عليماً } ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام ؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف .

وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن .

باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى ؛ وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة ؛ وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى .

وبين الفعل جعل وأنزل ؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها .

والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى .

والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل .

ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله ، قال تعالى : { على رسوله } .

ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح ، سكن المؤمنون ، فقال : { وعلى المؤمنين } .

ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن .