الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (26)

و{ الحَمِيَّةُ } التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ ؛ قال الزُّهْرِيُّ : وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية ، لأَنَّها كانت منهم بغير حُجَّةٍ ، إذ لم يأت صلى الله عليه وسلم مُحِارِباً لهم ، وإنما جاء معتمراً معظِّماً لبيت اللَّه ، و( السكينة ) : هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، والثقةُ بوعد اللَّه ، والطاعةُ ، وزوالُ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره ، و( كَلِمَةُ التَّقْوَى ) : قال الجمهور : هي لا إله إلا اللَّه ، ورُوِيَ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي مصحف ابن مسعود : { وَكَانُوا أَهْلَهَا وَأَحَقَّ بِهَا } والمعنى : كانوا أهلها على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم ، وروى أبو أمامة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ ، وَإذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ ، قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ ، وَإذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ، قَالَ : حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ ، ثُمَّ يَقُولُ : رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا ، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى ، أَحْيِنَا عَلَيْهَا ، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا ، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا ، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً ، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ " . رواه الحاكم في «المُسْتَدْرَكِ » ، وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «السِّلاَح » .

فقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى » على نحو ما فسرَ به الجمهور ، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ ؛ ففي صحيح مسلم : " ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ ، قَالَ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ، قَالَ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ " الحديث ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم ، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ؛ فيُرْوَى أَنَّهُ لما انعقد الصلحُ أَمِنَ الناسُ في تلك المُدَّةِ الحربَ والفتنةَ ، وامتزجوا وعَلَتْ دعوةُ الإسلام ، وانقاد إلى الإسلام كُلُّ مَنْ له فهم ، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أَضعافَ ما كان قبلَ ذلك ؛ قال ( ع ) : ويقتضى ذلك أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في عام الحديبيةِ في أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائة ، ثم سار إلى مَكَّةَ بعد ذلك بعامين في عَشَرَةِ آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .

( ت ) : المعروف عَشَرَةُ آلاف ، وقوله فارس ما أَظُنُّهُ يَصِحُّ فتأمله في كتب السيرة .