فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (26)

{ إذ جعل } أي : اذكر وقت أن جعل { الذين كفروا في قلوبهم الحمية } أي : اضمروها وأصروا عليها ، والحمية الأنفة يقال فلان ذو حمية أي : ذو أنفة وغضب وتكبر وتعاظم ، أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم ، والجعل بمعنى الإلقاء { حمية الجاهلية } بدل من الحمية ، قال مقاتل بن سليمان ، ومقاتل بن حيان : قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا فتتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفسنا ، واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه الحمية هي حمية الجاهلية ، التي دخلت في قلوبهم .

وقال الزهري : حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وقال الخطيب : حمية الجاهلية هي التي مدارها مطلق المنع ، سواء كان بحق أو باطل ، فتمنع من الإذعان للحق ، ومبناها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله ، فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء .

{ فأنزل الله سكينته } أي الطمأنينة والوقار { على رسوله وعلى المؤمنين } حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية ، وقيل : ثبتهم على الرضا والتسليم .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين : " اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق ؟ وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة ؟ وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : يا ابن الخطاب إني رسول الله ولم يضيعني الله أبدا ، فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار : قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ؟قال :يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا فنزل سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياها ، قال : يا رسول الله أفتح هو ؟ قال : نعم " .

{ وألزمهم } أي أختار لهم ، فهو إلزام تشريف وإكرام { كلمة التقوى } من الشرك وهي لا إله إلا الله ، كذا قال الجمهور ؛ وزاد بعضهم محمد رسول الله وزاد بعضهم وحده لا شريك له ، وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وذلك أن الكفار لم يقروا بها ، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير ، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها والأول أولى ، لأن كلمة التوحيد هي التي يتقي بها الشرك بالله ، وقيل : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه .

عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " وألزمهم كلمة التقوى قال لا إله إلا الله " أخرجه أحمد وابن جرير والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ، والترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أي : الحسن بن قزعة ، وكذا قال أبو زرعة ، وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعا مثله ، وعن علي بن أبي طالب مثله من قوله ، ومن قول عمر بن الخطاب نحوه ، وعن ابن عباس نحوه ، وعن مسور بن مخرمة ومروان نحوه ، وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك .

{ وكانوا أحق بها وبأهلها } عطف تفسيري ، أي وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار ، والمستأهلين لها دونهم في علم الله تعالى ، لأن الله سبحانه أهلهم لدينه ، وأختارهم لصحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم { وكان الله بكل شيء عليما } أي من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير .