قوله تعالى : { كيف وإن يظهروا عليكم } ، هذا مردود على الآية الأولى تقديره : كيف يكون لهم عهد عند الله كيف وإن يظهروا عليكم !
قوله تعالى : { لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } ، قال الأخفش : كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم ، أي : يظفروا بكم ، لا يرقبوا ، لا يحفظوا . وقال الضحاك : لا ينتظروا ، وقال قطرب : لا يراعوا فيكم إلاً ، قال ابن عباس و الضحاك : قرابة . وقال يمان : رحما ، وقال قتادة : الأل الحلف ، وقال السدي : هو العهد ، وكذلك الذمة ، إلا أنه كرر لاختلاف اللفظين . وقال أبو مجلز و مجاهد : الإل هو الله عز وجل . وكان عبيد بن عمير يقرأ : " جبر إل " بالتشديد ، يعني : عبد الله . وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب ، فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : إن هذا الكلام لم يخرج من أل ، أي : من الله عز وجل . والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة { لا يرقبون في مؤمن إلا } بالياء ، يعني : الله عز وجل . مثل : جبرائيل وميكائيل ، ولا ذمة أي : عهدا .
قوله تعالى : { يرضونكم بأفواههم } ، أي يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم . { وتأبى قلوبهم } . الإيمان .
قوله تعالى : { وأكثرهم فاسقون } . فإن قيل : هذا في المشركين وكلهم فاسقون ، فكيف قال : { وأكثرهم فاسقون } ؟ قيل : أراد بالفسق نقض العهد ههنا ، وكان في المشركين من وفى بعهده ، وأكثرهم نقضوا ، فلهذا قال : { وأكثرهم فاسقون } .
وقوله - سبحانه - { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً . . . } لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمرعاة ، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين .
وفائدة هذا التكرار للفظ { كَيْفَ } : التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإِغلاظ عليهم ، والحذر منهم .
قال الآلوسى : وحذف الفعل كيف هنا لكونه معلوماً من الآية السابقة ، وللإِيذان بأن النفس مستضحرة له ، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره .
وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده . ومن ذلك قول كعب الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار :
وخبرتمانى أنما الموت بالقرى . . . فيكف وماتا هضبة وقليب
والمراد هنا : كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } .
وقوله : { يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يظفروا بكم ويغلبوكم . يقال : ظهرت على فلان أى : غلبته ومنه قوله - تعالى - { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أى : غالبين .
وقوله : { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } أى : لا يراعوا في شأنكم . يقال : رقب فلان الشئ يرقبه إذا رعاه وحفظه . . ورقيب القوم حارسهم .
والإِل : يطلق على العهد ، وعلى القرابة ، وعلى الحلق .
قال ابن جرير - بعد أن ساق أوالا في معنى الإِل - وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإِل : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهى العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة . . ومن ادلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا . . . قطعوا الإِل وأعراق الرحم
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل :
وجدناهم كاذبا إلهم . . . وذو الإِل والعهد لا يكذب
وإذا كان الكلمة تشمل هذه المعانى الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها - جل ثناؤه - معانيها الثلاثة . .
والذمة : كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم .
والمعنى : بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، والحال المعهود منهم أن إن يظفروا بكم ويغلبوكم ، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق .
وقوله - تعالى - { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } زيادة بيان للأحال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين .
أى : أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم - أيها المؤمنون - فلعوا بكم الأفاعيل ، وتفتنوا في إيذاكم من غير أن يقيموا وزنا لما بينكم وبينهم من عهود وموايثق ، وقرابات وصلات . . أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أى : يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم ، وهم في الوقت نفسه { وتأبى قُلُوبُهُمْ } المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم ، فهم كما وصفهم - سبحانه - في آية أخرى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أى : خارجون عن حدود الحق ، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة ، إذ الفسق هو الخروج والانفصال . يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع .
وإنما وصف أكرهم بالفسوق ، لأن هؤلاء الاكثرين منهم ، هم الناقضون لعهودهم ، الخارجون على حدود ربهم ، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم ، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا ، ولم يظاهروا عليهم أحدا .
وبذلك نرى أن الاية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح ، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا واسرفوا في الإِيذاء ، نابذين كل عهد وقراءة وعرف . . أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم ، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة .
أى أن الغدر ملازم لهم في حالتى قوتهم وضعفهم ، لأنهم في حالة قوتهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } . وفى حالة ضعفهم يخادعون ويداهون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين .
ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية ؛ بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية ؛ ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية :
( كيف ? وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ، اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ) . .
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم . ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم ، وفي غير ذمة يرعونها لكم ؛ أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم ! فهم لا يرعون عهدا ، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ؛ ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها . فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم ، لو أنهم قدروا عليكم . مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة . فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود ؛ إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم ! . . وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد . فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد ؛ وتأبى أن تقيم على العهد ؛ فما بهم من وفاء لكم ولا ود !
( وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله . إنهم ساء ما كانوا يعملون ) .
{ كيف } تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله :
وخبّرتماني أنما الموت بالقرى *** فكيف وهاتا هضبة وقليبُ
أي فكيف مات . { وإن يظهروا عليكم } أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم . { لا يرقبوا فيكم } لا يراعوا فيكم . { إلا } حلفا وقيل قرابة قال حسان :
لعمرك إن الّك من قريش *** كإلّ السقب من رألِ النعام
وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الإل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ، ثم للربوبية والتربية . وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع . وقيل إنه عبري بمعنى الإله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل . { ولا ذمّة } عهدا أو حقا يعاب على إغفاله . { يُرضونكم بأفواههم } استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر ، ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال ، واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه { وتأبى قلوبهم } ما تتفوه به أفواههم . { وأكثرهم فاسقون } متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم ، وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء .
{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة }
و{ كيف } هذه مؤكدة ل { كيف } [ التوبة : 7 ] التي في الآية قبلها ، فهي معترضة بين الجملتين وجملة : { وإن يظهروا عليكم } إلخ يجوز أن تكون جملة حالية ، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] إخباراً عن دخائلهم .
وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين ، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار ، لا مجرّدُ قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء ، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته ، ابتداء ، لأنّهم ليسوا أهلاً لذلك ، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة . وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين ، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات ، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة . فجملة : { وإن يظهروا عليكم } معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] .
وضمير { يظهروا } عائد إلى المشركين في قوله : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله } [ التوبة : 7 ] ومعنى { وإن يظهروا } إن ينتصروا . وتقدّم بيان هذا الفعل آنفاً عند قوله تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحدا } [ التوبة : 4 ] . والمعنى : لو انتصر المشركون ، بعد ضعفهم ، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سبباً في قوتكم ، لنقضوا العهد . وضمير { عليكم } خطاب للمؤمنين .
ومعنى { لا يرقبوا } لا يوفوا ولا يراعوا ، يقال : رقَب الشيء ، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة ، ومنه سمّي الرقيب ، وسمّي المرْقَبَ مكان الحراسة ، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد ، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يَره وصرف نظره عنه .
والإلّ : الحلف والعهد ؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة . وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات ، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه .
والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى ، يقال : في ذمّتي كذا ، أي ألتزم به وأحفظه .
{ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }
استئناف ابتدائي ، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم ، كيداً ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة . من يسمع كلاماً فيأباه .
والإباية : الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة ، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى .
وجملة : { وأكثرهم فاسقون } في موضع الحال من واو الجماعة في { يرضونكم } مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف ، مع ذلك ، بالخروج عن مهيع المروءة والرُّجلة ، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة ، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية . فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس ، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم ، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر .