قوله تعالى : { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }
اعلم أن قوله : { كيف } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل كونه معلوما أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعدما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد ( ولم يبقوا عليكم ) هذا هو المعنى ، ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال : ظهرت على فلان إذا علوته ، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه . قال الليث : الظهور الظفر بالشيء . وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى : { فأصبحوا ظاهرين } وقوله : { ليظهره على الدين كله } أي ليعليه ، وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال ، ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوبا صار كالناقص ، والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله : { إن يظهروا عليكم } يريد أن يقدروا عليكم وقوله : { لا يرقبوا فيكم } قال الليث : رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوبا وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله : { ولم ترقب قولي } أي لم تحفظه . أما الأول ففيه أقوال : الأول : أنه العهد قال الشاعر :
وأدناهم كاذبا الهم *** وذو الإل والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني : قال الفراء : الإل القرابة . قال حسان :
لعمرك أن الك من قريش *** كإل السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الإل الحلف . قال أوس بن حجر :
لولا بنو مالك والإل مرقبه *** ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف . والرابع : الإل هو الله عز وجل ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال : إن هذا الكلام لم يخرج من إل ، وطعن الزجاج في هذا القول وقال : أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول : يا إل . الخامس : قال الزجاج : حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشيء ، فمن ذلك الآلة الحربة . وأذن مؤللة ، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة . السادس : قال الأزهري : أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية ، فجائز أن يكون عرب . فقيل إل . السابع : قال بعضهم : الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا ، إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانة ، وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته ، ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت ، فالعهد سمي إلا ، لظهوره وصفائه من شوائب الغدر ، أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه .
أما قوله : { ولا ذمة } فالذمة العهد ، وجمعها ذمم وذمام ، كل أمر لزمك ، وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة ، وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه ، يعني ما يجتنب فيه الذم يقال : تذمم فلان ، أي ألقى على نفسه الذم ، ونظيره تحوب ، وتأثم وتحرج .
أما قوله : { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } أي يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا ، والذي في قلوبهم بخلاف ذلك ، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه { وأكثرهم فاسقون } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : الموصوفين بهذه الصفة كفار . والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم .
السؤال الثاني : أن الكفار كلهم فاسقون ، فلا يبقى لقوله : { وأكثرهم فاسقون } فائدة .
والجواب عن الأول : أن الكافر قد يكون عدلا في دينه ، وقد يكون فاسقا خبيث النفس في دينه ، فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود { أكثرهم فاسقون } في دينهم وعند أقوامهم ، وذلك يوجب المبالغة في الذم .
والجواب عن الثاني : عين ما تقدم ، لأن الكافر قد يكون محترزا عن الكذب ، ونقض العهد والمكر والخديعة ، وقد يكون موصوفا بذلك ، ومثل هذا الشخص يكون مذموما عند جميع الناس وفي جميع الأديان ، فالمراد بقوله : { وأكثرهم فاسقون } أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة ، وأيضا قال ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب ، فلهذا السبب قال : { وأكثرهم فاسقون } حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.