البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

الآل الحلف والجؤار ، ومنه قول إبي جهل .

لآل علينا واجب لا نضيعه *** متين قواه غير منتكث الحبل

كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته .

وقيل : القرابة .

وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر :

أفسد الناس خلوف خلفوا ***

قطعوا الآل وأعراق الرحم

وظاهر البيت أنه في العهد .

ومن القرابة قول حسان :

لعمرك أن لك من قريش *** كل السقب من رأل النعام

وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق .

وقيل : من أل البرق لمع .

وقال الأزهري : الأليل البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع .

وقال القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الآلة الحربة .

واذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه : أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه ، ويجمع في القلة الآل ، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً ، وأدغمت اللام في اللام ، الذمة ؛ العهد .

وقال أبو عبيدة : الأمان .

وقال الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى .

أبى يأبى منع ، قال :

أبى الضيم والنعمان يخرق نابه *** عليه فافضى والسيوف معاقله

وقال :

أبى الله إلا عدله ووفاءه ***

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة .

{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد .

والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه ؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقال الشاعر :

وخبرتماني إنما الموت بالقرى *** فكيف وهاتا هضبة وكثيب

أي : فكيف مات وليس في قرية ؟ وقال الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم *** على معظم وأن أديمكم قدّوا

أي فكيف تلومونني على مدحهم ؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر .

وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم ؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم ؟ والواو في «وإن يظهروا » واو الحال .

وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته .

والمعنى : وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم .

وقرأ زيد بن علي : وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول .

لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو الله تعالى ، أو جؤاراً أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال .

قال مجاهد وأبو مجلز : إلْ اسم الله بالسريانية وعرب .

ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل .

وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد .

وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم الله تعالى .

ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما .

قال الشاعر :

يا ليتما أمنا سالت نعامتها *** إيما إلى الجنة إيما إلى نار

قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان .

ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم .

واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن .

وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر .

وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم إلا المعصية .

والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان .

وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان .

ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة .

وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني .